أشرنا سابقاً بأن كل الخطايا والجرائم والآثام الشخصية قد يقال: إن منشأها من السخرية؛ لأنك سخرت منه عندما رأيت نفسك أعلى منه وهو دونك، فاستنقصته فصار هناك الغمز واللمز، وصار هناك الاعتداء وكانت هناك الآثام، (بحسب امرئ مسلم من الإثم أن يحقر أخاه المسلم) ، يكفيه ذنب واحد في الدنيا لهلاكه وتعذيبه وهو الاحتقار، والاحتقار سيؤدي إلى السخرية، إذ السخرية نتيجة الاحتقار، ويحمله ذلك على معصية الله.
ويقولون: إن أول معصية وقعت إنما هي الحسد، أي: حسد إبليس أبانا آدم على ما أكرمه الله به من أنه خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود إليه، وأمر بسكناه الجنة، وإبليس لم يجد شيئاً من هذا، فحسده على تكريم الله إياه، وأقول: إن قبل الحسد كانت السخرية، فإبليس ما حسد آدم إلا من بعد ما سخر منه واحتقره، ولما احتقره استكثر نعم الله عليه وأنه لا يستحقها، وهذا الذي يجري عند الناس إذا رأوا نعمة الله على عبد قالوا: لا يستحقها.
وليس أهلاً لهذا، يعني: يسخر منه ويتنقصه ويستكثر نعم الله عليه، فهو محارب لله في عطائه لبعض خلقه.
أقول: إن السخرية سبقت الحسد، والحسد جاء بسب السخرية، وكانت نتيجة الحسد الكبر، ونتيجة الكبر العصيان {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ} [ص:75] ، رجع إلى أصله الذي خلق منه، وسخر من آدم ومن أصله الذي خلق منه، وهو مخطئ في هذه المقدمات، ومخطئ في هذه النظرية، ويقول العلماء: إن الطين خير من النار، ولولا الطين ما كانت النار، {أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} [الواقعة:71-72] .
وقود النار من الشجر الذي ينبت في الطين، فالطين أصل، ويقولون: لو أخذت نواة وألقيتها في النار فإنها ستحترق ولا تنبت، ولكنها إذا رميت في الطين فإنها ستنمو وينتفع بها الغير، فأصل الطين ينبت ما هو خير، وأصل النار يهلك غيره، وعلى هذا يقول: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:73-74] ، وعلى هذا يحذر الإنسان العاقل من أن يقف موقف السخرية من أي إنسان كان حتى وإن كان كافراً، فإنك تستعيذ من حاله، وقد تشفق عليه لمآله، لكن لا تسخر منه، فإن الله كتب عليه هذا، ولو استطعت أن تدعو له بظهر الغيب أن يهديه الله ويأخذ بيده إلى الإسلام والإيمان كان خيراً من أن تسخر منه.
إذاً: هذا كله مبدأ عظيم في هذه السورة الكريمة، وكما أشرنا سابقاً أننا نسميها سورة الآداب أو سورة الأخلاق، وهذا من أعظم تهذيب أخلاق الأمة الإسلامية، بأن لا يسخر بعضها من بعض لا أفراداً ولا جماعات.