(لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا) أي: المسخور منه خير من هؤلاء الذين سخروا، (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) .
وكما يقولون: السخرية لا تكون إلا في جمع من الناس؛ لأنه لا يسخر من إنسان بينه وبين نفسه، وقد يكون هذا يتنقصه في نفسه ولكن العادة أنه لا يسخر من إنسان إلا بحضور آخرين، ويسخر منه ويتنقص في أمر يسخر منه، قد يسخر قوي من ضعيف غني من فقير سليم من مريض، كل هذه الأنواع المتغايرة المتفاضل فيها قد يسخر من الناقص منها.
ولكن يقول سبحانه: (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) ، الخيرية هذه لها جهتان: خيرية في الدنيا، وخيرية في الآخرة.
عسى أن يكونوا خيراً منهم عند الله، أنت تسخر منه وهو خير منك عند الله، يبقى فالسخرية حينها ترجع عليك أنت، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر عليهم -وهو في أصحابه- رجل قوي جلد ذو هيئة فقال: (ما تقولون في هذا؟ قالوا: نعم الرجل، إن استأذن أذن له، وإن تحدث أصغي إليه وإن خطب زوج.
فسكت عنهم حتى مر إنسان مسكين نحيف الجسم ضعيف الحال، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: إن تحدث لا يصغى إليه، وإن استأذن لا يؤذن له، وإن خطب لا يزوج.
قال: لهذا خير من ملء الأرض من ذاك عند الله) ، فهذا الذي تنظرون إليه على أنه ضعيف أو تزدريه أعينكم خير من ملء الأرض من ذاك الذي ملأ أعينكم وأخذ إعجابكم.
هذه الخيرية عند الله.
لكن وإن قال جميع المفسرين هذا ولكن نقول: هذا في الدنيا؛ أنت غني تسخر من فقير، وما يدريك أن هذا الفقير على مكارم الأخلاق، وأحسن العادات صدوق في الحديث، وفيّ في العهود، محافظ على أوامر الله، يقيم الصلاة، يصوم رمضان، بينما أنت مفرط في بعض ذلك.
قد تسخر منه لصحتك وهو مريض، وما يدريك لعله في مرضه يقوم الليل ويناجي ربه، وأنت غارق في النوم.
إذاً: قد تكون الخيرية في الدنيا بجوانب أخرى، أنت استنقصته بفقره والله عوضه من ذلك، ولهذا جاء عن الإمام علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إن الله تعالى قسم العطاء على الخلق، ولو نظرت في أحوال الناس لوجدتهم من حيث العطاء سواء) قد تقول: كيف هؤلاء متساوون: هذا فقير وهذا غني، وهذا صحيح وهذا مريض، قال: (إن أعطى هذا مالاً ومنعه من هذا، فقد يعطي هذا راحة بال وطمأنينة نفس خير من مال هذا) ، قد يكون المال مشغلاً لصاحبه، مقلقاً له، مؤرقاً إياه، ولكن هذا راض بما قسم الله له، والرضا عطاء من عند الله، فيبيت مطمئناً راضياً قانعاً، فيكون أسعد حالاً، وقد يعطي الله هذا مالاً ويمرض هذا ويعطيه من الحكمة والعلم ما يساوي مئات المرات مما أعطى هذا من صحة ومال.
وكما جاء عن عروة بن الزبير: أنه سافر إلى العراق إلى معاوية وحصل له في الطريق ما حصل، وهناك أصيبت ساقه، فجاء الطبيب فقال: لابد من بترها حتى لا يتفشى المرض في باقي الجسم فتقضي على حياتك، أخيراً: قطعت الرجل، فلما جاء إلى المدينة غطاها، وكان الناس يأتون يسلمون عليه ويعزونه في رجله، فدخل عليه أناس من أصحابه الأخصين، فقال لابنه: (اكشف عن رجلي ليراها فلان، فنظر إليه فضحك، قال: ما يضحكك على هذه المصيبة؟ قال: نحن ما أعددناك للسباق والصراع، ولكن أعددناك للعلم والفقه -وكان عروة أحد الفقهاء السبعة- قال: والله ما عزاني أحد فيها كما عزيتني أنت) ؛ فلئن ذهب جزء من الساق أو الساق بكاملها فقد أعطاه الله سبحانه وتعالى من العلم والحكمة ما يفوق على الدنيا وما فيها.
إذاً: عسى أن يكونوا في الدنيا بجوانب أخرى خيراً منكم؛ فلا يسخر قوم من قوم.
إذا رأى الإنسان من نفسه تطلعاً أو تطاولاً وجاء الشيطان وأغراه فليقمع الشيطان عنه، وليعلم بأن هناك صفات أخرى إما معنوية أو حسية هي خير مما يسخر به هذا الإنسان.
إذاً: فالأحمق وغير العاقل هو الذي يسخر من أخيه الإنسان، ألفقره وغناك تسخر منه؟ فالغنى ليس بمحض جهدك بل الله سبحانه وتعالى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، لينظر هل يشكر أم يكفر، يصبر أم يضجر؟ فهو عطاء من عند الله، والصحة كذلك ليست من جهدك ولا من عطائك، وهكذا لا ينبغي لعاقل قط أن يسخر من إنسان آخر رآه في حسبانه هو أنه منقصة في هذا الشخص الآخر، لا وكلا، ولذا جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (والله إني لأخشى لو أنني سخرت من كلب أن يمسخني الله كلباً) .