اجتهادات العلماء راجعة إلى كتاب الله

الفرعيات والاجتهاديات إذا حدثت وتجددت؛ فإن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، والذين أعطاهم الله البصيرة في دينهم وأنار قلوبهم بالتقوى التي أورِثوها، وبالزهد والورع، وبمخافة الله، وبنور الله في قلوبهم، فإنهم يجتهدون فيما استجد ويردونه إلى الأصول من كتاب الله وسنة رسوله، فهو أيضاً عمل بما جاء عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) .

فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، فجاءت فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فهل وجدت ذلك في كتاب الله، قال: أتقرأين كتاب الله؟ فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين -تعني: القرآن- فما وجدت فيه ما تقول.

قال: لئن كنت قرأته أما قرأت: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] ؟ قالت: بلى.

قال: فإنه قد نهى عنه.

قالت: فإني أرى أهلك يفعلونه، قال: فاذهبي فانظري.

فذهبت فنظرت فلم تر من حاجتها شيئاً، فقال: لو كانت كذلك ما جامعتها.

والشاهد من هذا أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه جعل سنة رسول الله من كتاب الله، ويقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في أضواء البيان: السنة بأجمعها قطرة من بحر كتاب الله.

أي في قوله سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] .

ووقع للشافعي رحمه الله أنه وقف في المسجد الحرام، وقال: يا أهل مكة! سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله.

وهذه دعوى عريضة لا يقوى عليها إلا مثله، فقام شخص وقال: أخبرنا عن المُحرِم يقتل الزنبور ماذا عليه؟ الزنبور حشرة أكبر من النحلة ولسعته شديدة، ويقولون: إن سبعة منه كعقرب، وكما قيل: دويبة حمراء في بردة حبِرة.

فقال: يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] ، ويقول صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) ، وحدثني فلان عن فلان -وذكر السند إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه-: أنه سُئل عن المحرم يقتل الزنبور ماذا عليه؟ فقال: لا شيء عليه، فلا شيء على المحرم يقتل الزنبور في كتاب الله.

فانظروا أيها الإخوة! إلى هذه الدرجات وتلك المراتب في الاستدلال والربط والتأكد! فكأن الشافعي رحمه الله يقول: أنا من الراسخين في العلم؛ سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله، ولكن كلنا يعلم أن الزنبور ليس في كتاب الله، وكنت حاولت إحصاء ما ذكر من تلك الحشرات والحيوانات والطيور؛ فإذا بها تزيد عن الثلاثين صنفاً ليس منها الزنبور، فمنها العنكبوت والبعوض والذباب والنحل، ولكن كلمة زنبور ليست موجودة في كتاب الله، والشافعي يرد هذه الجزئية التي جاء السؤال فيها على سبيل التعنت إلى كتاب الله؛ لأن السائل رأى دعوى الشافعي في ذلك، فقام وأتاه بما لا يمكن أن يخطر على البال، وكما قيل: لا يفل الحديد إلا الحديد.

فكان موقف الشافعي رحمه الله أن يتدرج في مراتب الاستدلال، فيبدأ بكتاب الله، فيجد كتاب الله يحيل على سنة رسول الله، وسنة رسول الله تحيل على الخلفاء الراشدين، ويُروى عن أحد الخلفاء الراشدين الحكم في هذه المسألة، فيعزوه الشافعي إلى كتاب الله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015