فالآية الثانية أدب الأمة مع رسول الله كنبي صلوات الله وسلامه عليه في شخصيته وذاته بعدم رفع الصوت، وبعدم الجهر له بالقول، وإذا كان الأمر كذلك في حياته صلوات الله وسلامه عليه؛ فإننا نأتي إلى التطبيق العملي، من إجماع المسلمين من أن الآيتين يجب تطبيقهما بعد مماته كما طبقتا في حياته صلى الله عليه وسلم.
فالآية الأولى: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ} [الحجرات:1] ، فلا يجوز التقدم عليه بشيء، والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما) ، كذلك لا ينبغي لأحد أن يتقدم على سنة رسول الله التي هي مسطَّرة بأيدي العلماء، وموجودة في سجل السنة المشهورة عند الجميع، فلكأنه صلى الله عليه وسلم حيٌ بين أظهرنا بوجود الكتاب والسنة.
وهنا أيضاً: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات:2] ، نهى عمر رضي الله تعالى عنه عن رفع الصوت في مسجد رسول الله حتى لا يقع من يرفع صوته في نطاق الآية الكريمة، وسَمِع رجلين يتحدثان في المسجد النبوي بصوت مرتفع، فقال: عليّ بهذين، فأُتي بهما ترعد فرائصهما، فنظر إليهما فقال: أغريبان أنتما، قالا: بلى، من أهل الطائف.
قال: لو كنتما من أهل هذه البلدة لأوجعتكما ضرباً، أترفعان أصواتكما عند رسول الله؟ وهذا بعد موته صلى الله عليه وسلم.
وكان التحديث سابقاً إذا كثر الطلاب وكان الصوت محدوداً أن يُوقف رجال على منتهى الصوت فيسمعون من المحدث ما يقول ويجهرون به ويسمعون من خلفهم، وهكذا ويتم نقل الحديث عن طريق المبلغين كما كان الحال في المبلِّغة المؤذن يرفع صوته بتكبيرات الإمام لكي يُسمع من في مؤخرة المسجد، فقيل لـ مالك: اتخذ مبلغين فإن الحلقة قد زادت، ومن في آخر الحلقة لا يسمع منك؟ فقال: أخشى أن أدخل في قوله سبحانه: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] ، مع أن ابن عبد البر بوب في كتابه جامع بيان العلم وفضله: جواز رفع الصوت بالعلم، وذكر قضية إسباغ الوضوء، ونداؤه صلى الله عليه وسلم بأعلى صوته، وبعض الأدلة الأخرى.
الذي يهمنا أن هاتين الآيتين محكمتين إلى اليوم، ويجب تطبيقهما عملياً، سواء من جانب الرسالة أو من جانب النبوة.
ولهذا اتفق العلماء على أن من أراد أن يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إلى الحجرة الشريفة ويستقبل الوجه الكريم، وأن يسلم بصوت ليس فيه ارتفاع وليس همساً بحيث يسمع نفسه، أو يسمع من بجواره، ولا يرفع صوته على صوت رسول الله، ويقول مالك رحمه الله: من ظن أن وفاة رسول الله تنقص منه قدر شعرة فقد كفر بما أنزل على محمد لأن الله سبحانه يخبر عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وما الشهداء جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها إلا حسنة من حسنات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأن الأنبياء أحياء في قبورهم، ولكنهم في حياة برزخية لا يرتقي العقل إلى كيفيتها، ولا إلى إدراك كنهها، كما قال تعالى: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران:169] ، والذي عند ربنا ليس عندنا، ولا نستطيع أن نتصور أي شيء من ذلك.
وعليه فالآيتان محكمتان مطبقتان، ويجب الالتزام بهما إلى اليوم وإلى ما شاء الله، وبالله تعالى التوفيق.