ثم يأتي الأدب الثاني: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات:2] ، يظن بعض الناس أنهما شيءٌ واحد، ولكن الحقيقة أنهما أمران مختلفان، فالأول: في رفع الصوت من حيث هو، ولو كان بتلاوة القرآن، والثاني: نوعية الحديث ما هي؟ حديث أدبي، ديني، اقتصادي، عائلي، ما هو الموضوع؟ {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} ، أي: لا تجعلوا أحاديثكم مع رسول الله في الأمور التي تجعلونها بين أنفسكم في خلواتكم؛ لأن الإنسان مع صديقه وزميله قد يتحدث في أمور يستحي أن يجهر بها ويعلنها عند من هم أكبر منه سناً، أو منزلة.
فمثلاً: الأولاد فيما بينهم يتحدثون في أمور بيتهم أو شخصياتهم، فإذا دخل أبوهم غيروا مجرى الحديث، لأنهم لا يريدون أن يسمع الأب ذلك الحديث.
لو كان إنسان في دور الخطوبة والزواج، وجلس مع زملائه الذين سبقوه بالزواج يتحدثون عن آداب الزواج وكيفية المعاشرة وشيء من ذلك، فإذا دخل عليهم رجل كبير ولو لم يكن أب واحد منهم غيروا مجرى الحديث؛ لأن هذا الحديث ينبغي أن يكون سراً وليس جهراً.
إذاً فالمعنى: اجعلوا حديثكم مع رسول الله على مستوى عال من مكارم أخلاق، والتعلم في الدين، والاسترشاد في أمور الدنيا، وليس مما تنزلون بمستواه إلى ما لا تحبون أن يسمعه من هو أعلى منكم سناً أو مرتبة.
ويذكر علماء التفسير أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان قادماً إلى بيت رسول الله، فسمع وهو على الباب قبل أن يستأذن امرأة تشتكي من زوجها فيما يكون من شأن الفراش بين الزوجين، فنادى خالد بن سعيد أبا بكر من عند الباب: يا أبا بكر! ألا تنهى هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لأن الجهر بمثل ذلك لا يليق بالمستوى، مع أنه صلى الله عليه وسلم هو المشرع وهو المرجع في كل صغيرة وكبيرة، ولكن لكل مقام مقال.
أيضاً: المرأة التي سألت رسول الله: يا رسول الله! هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فغطت أم سلمة وجهها وقالت: فضحت النساء عند رسول الله؛ سلي بعض زوجاته تسأل لك رسول الله، أي: كيف تجاهرين بهذا مباشرة مع رسول الله؛ لأن الحديث سيأتي بصورة ذهنية عما ذكرته المرأة، فيتصور الإنسان بمخيلته امرأة في فراشها ترى ما يرى الرجل، وهذه الصورة يتأبّى عنها كل أديب وكل ذي خلق كريم، لكنها أدخلتها على ذهنه إجباراً عليه، ومن هنا قالت أم سلمة: فضحت النساء.
هل نهرها صلى الله عليه وسلم؟ لا، لأن عليه البيان، فقال: (نعم، إن هي رأت الماء) .
هذا أمر تشريعي، أم سلمة استحت منه، ولكن لضرورة التشريع لابد منه، لكن إذا لم يكن الأمر مما يستدعي ذلك، وأرادوا الحديث فلا ينبغي هذا.
ومما جاء أيضاً: أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان صلى الله عليه وسلم في حجرتي، وكان مضطجعاً وفخذه باد، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حالته، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على حالته، ثم استأذن عثمان فاعتدل وغطى فخذه وأذن له.
تقول عائشة رضي الله تعالى عنه: فلما خرجوا قلت: يا رسول الله استأذن عليك أبي فأذنت له وأنت على حالك، واستأذنك عمر فأذنت له وأنت على حالك، واستأذنك عثمان فنهضت وسترت فخذك، فلماذا؟ فقال: (ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة) ، هذه ناحية، الجواب الثاني وهو عملي، قال: (إن عثمان رجل حيي وإني خشيت أن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلي في حاجته) .
انظروا إلى هذا الحال.
الرسول مع أبي بكر وعمر لكن لما علم من عثمان شدة حيائه خشي أن يرى عثمان ذلك فلا يطلب ولا يسأل حاجته، وربما ينصرف، فقابله بما يمكن أن يكون وسيلة أو طريقة لما يصل بها عثمان إلى حاجته.
إذاً: الأقوال أو المجالس أو الأحاديث تتفاوت، ولكل مقام مقال.