جاهلون بحقيقة ما جاء به، لا يدرون ما هو، ولا يعرفون كنهه، أو كانوا قد علموا أنه حق، وأنه من عند الله، ولكن أرادوا أن يدفعوه بالصدر، ويرموه بكل حجر ومدر، وهذا شأن من غلبته الحجة، وقهره البرهان.
وقد ذكرت (?) هذه المقالات على هذا الوضع إشارة إلى ترقيها في الفساد، فإن كونها سحرًا أقرب من كونها أضغاث أحلام، قد يقال: "إن من البيان لسحرا" بخلاف تخاليط الكلام التي لا تضبط، ولا شبه لها بهذا النظم البديع، وادعاء كونها مفترياتٍ أبعد وأبعد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قد شهر بالأمانة والصدق، إلى أنهم أعرف الناس بالفرق بين المنظوم والمنثور, وبين ما يساق له الشعر وما سيق له هذا الكلام، إلى أنهم يعلمون من مخالطته مدى أربعين سنة أنه لا يسهل له الشعر وإن أراده.
وفي "روح البيان": قوله تعالى حكاية عن الكفار: {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} كثير من المفسرين (?) حملوه على أنهم رموه بكونه آتيًا بشعر منظوم مقفى، حتى تأوّلوا عليه ما جاء في القرآن من كل لفظةٍ تشبه الموزون من نحو قوله: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ}، وقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}، وقال بعض المحققين: لم يقصدوا هذا المقصد فيما رموه به، وذلك أنه ظاهر من هذا الكلام أنه ليس على أساليب الشعر، ولا يخفى ذلك على الأغنام من العجم، فضلًا عن بلغاء العرب، وإنما رموه بالكذب، فإن الشعر يعبّر به عن الكذب، والشاعر الكاذب حتى سمّوا الأدلة الكاذبة بالشعر، ولكون الشعر مقرُّ الكذب قيل: أحسن الشعر أكذبه. فالمراد بقولهم: إنه شاعر: القدرة على إنشاء الكلام الموزون، وليس من مقتضاها التكلم.
ثم بعدما قدحوا في القرآن، طلبوا آيةً أخرى غيره فقالوا: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ} وهذا جواب شرط مقدر يدل عليه السياق، تقديره: إن لم يكن كما قلنا، بل كان