إليهما بعد خروجه من عهدة عبودّية ربّه، إذ هو موجد وجوده، ووجود والديه في الحقيقة، ولا يختار على أداء عبوديّته إحسان والديه، فكيف الالتفات لغيرهما، وفي الحديث: "ما قعد يتيمٌ مع قوم على قصعتهم، فلا يقرب قصعتهم الشيطان"، وفي الحديث أيضًا: "مَنْ ضمَّ يتيمًا من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله سبحانه، غفرت له ذنوبه ألبتة، إلّا أن يعمل عملًا لا يغفر، ومن أذهب الله كريمته، فصبر واحتسب غفرت له ذنوبه" قالوا: وما كريمته؟ قال: "عيناه"، ومن كان له ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، فأنفق عليهنّ، وأحسن إليهنّ حتى يكبرن، أو يمتن، غفرت له ذنوبه ألبتةَ، إلّا أن يعمل ما لا يغفر، فناداه رجل من الأعراب ممَّن هاجر، فقال: يا رسول الله! أو اثنتان، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أو اثنتان".
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة". وأشار بالسبابة والوسطى، والسبابة من الأصابع هي التي تلي الإبهام، وكانت في الجاهليّة تدعى بالسبَّابة؛ لأنّهم كانوا يسبُّون بها، فلما جاء الله بالإِسلام كرهوا هذا الاسم، فسمَّوها بالمشيرة؛ لأنّهم كانوا يشيرون بها إلى الله بالتوحيد، والمُشيرة من أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت أطول من الوسطى، ثم الوسطى أقصر منها، ثمّ البنصر أقصر من الوسطى، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا وهو كهاتين في الجنة" وقوله في الحديث الآخر: "أُحْشر أنا، وأبو بكر، وعمر يوم القيامة هكذا". وأشار بأصابعه الثلاث، فإنّما أراد ذكر المنازل والإشراف على الخلق، فقال: نحشر هكذا، ونحن مشرفون، وكذلك كافل اليتيم يكون له منزلةٌ رفيعةٌ، فمن لم يعرف شأن أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمل تأويل الحديث على الانضمام، واقتراب - بعضهم من بعض في محل القربة، وهذا معنى بعيد؛ لأنّ منازل الأنبياء، والمرسلين، والصدّيقين، والشهداء، والصالحين، مراتب متباينة، ومنازل مختلفةٌ. كذا في "تفسير القرطبي".
ومنها: البِرُّ إلى المساكين، وهم الذين أسكنتهم الحاجة وذلَّلتهم، وهذا يتضمَّن الحضَّ على الصدقة، والمواساة، وتفقد أحوال المساكين والضعفاء، وفي الحديث: "السَّاعي على الأرملة والمساكين، كالمجاهد في سبيل الله" وكان طاووسٌ يرى السعي على الأخوات، أفضل من الجهاد في سبيل الله.