كثيرة، والانتقال فيها من الأمور المخَيلة إلى الحقائق العقلية الروحانية، ليس بسهلٍ، وما نحن بمتبحِّرين في علم التعبير، حتى نهتدي إلى تعبير مثلها، ويَدُلُّ على قصورهم قول الملك {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}، فإنه لو كان هنا متبحِّر: لبت القولَ بالإفتاء، ولم يعلِّقْه بالشرطِ، وهو اللائحُ بالبال، وعلى تقديرِ تبحرهم عَمى اللَّهُ عليهم، وأَعْجَزَهم عن الجواب؛ ليصير ذلك سببًا لخلاص يوسف من الحبس، وظهور كماله وفَضْلِهِ. وقرأ (?) أبو جعفر بالإدغام في (الرؤيا) وبَابُه (بعد) قلب الهمزة واوًا، ثمَّ قلبها ياءً لاجتماع الواو والياء، وقد سَبَقَتْ إحداهما بالسكون، ونصُّوا على شُذُوذِه؛ لأنَّ الواوَ هي بدلٌ غيرُ لازم و (اللام) في {لِلرُّؤْيَا} مقوية لوصول الفعل إلى مفعوله، إذا تقدَّمَ عليه، فلو تأخَّرَ لم يَحْسُن ذلك بخلاف اسم الفاعل، فإنه لِضَعْفِهِ قد تَقوَّى بها، فتقول: زيد ضاربٌ لعمرٍو فصيحًا.
وقد كان حديث الملك في رؤياه، مع كهنته، وعلمائه، ورجال دولته، مذكرًا للذي نجا من الفَتَيَيْنِ بِيُوسُفَ، وحُسْنِ تعبيره للرؤيا بعد أن مضَى على ذلك مدَّةً من الزمان، كما يشير إلى هذا ما بعده.
45 - {وَقَالَ الَّذِي نَجَا} وخرج من السجن {مِنْهُمَا}؛ أي: من صاحبي يوسف، وهو السَّاقي {و} الحال أنه قد {ادَّكَرَ}؛ أي: قد تذكَّر يوسفَ وما قاله {بَعْدَ أُمَّةٍ}؛ أي: بعد مدة طويلة من الزمان. وادّكر: أصله: إذْتكر، فقلبت التاء دَالًا، والذال دالًا، وأدغمت كما سيأتي في مباحث الصرف. أي: تذكَّر (?) الناجي منهما يوسفَ، وتأويلَه رؤياه، ورؤيا صاحبه، وطَلَبَه أن يَذْكُره عند الملك، فجَثى بين يَدَي الملك؛ أي: جَلَس النَّاجِي على ركبتيه، قُدَّامَ الملك فقال للملك: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ}؛ أي: أنا أُخبركم {بِتَأْوِيلِهِ}؛ أي: بتأويل هذا المنام الذي أَشْكَلَ عليكم وتعبيره. خَاطبه بلفظِ الجمع تعظيمًا له {فَأَرْسِلُونِ}؛ أي: فابعثون إلى السجن، فإن فيه رجلًا حكيمًا من آل يعقوب، يقال له: يُوسُفُ يعرِفُ تعبير الرؤيا، قد عَبَّر لنا قبلَ ذلِكَ فأرسلوه إلى يوسف، فأتاه فاعتذَرَ إليه، فاسْتَفْتَاه فيما عَجَزُوا عنه،
46 - وقال: يا {يُوسُفُ}، ويا