الإغناء بعد الفقر، ولا الإيناس بعد الوحشة، إلى نحو هذا مما ينبىء بعظيم القدرة، وكمال الجود والإحسان، فهذه الجملة مستأنفة لتقرير كمال سعته سبحانه وشمول قدرته، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أمرنا الذين من قبلكم من اليهود والنصارى، وغيرهم من سالف الأمم، فيما أنزلناه عليهم من الكتب {و} أمرنا {إِيَّاكُمْ} يا أهل القرآن، في كتابكم المنزل على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: أمرناهم وإياكم جميعًا بـ {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} وخافوا عقابه بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات، فبتقوى الله تعالى ترقى معارفكم، وتزكوا نفوسكم، وتنتظم مصالحكم الدينية والدنيوية، {و} قلنا لهم ولكم: {إِنْ تَكْفُرُوا} نِعَمَ الله عليكم، وتجحدوا فضله وإحسانه لكم .. {فَإِنَّ لِلَّهِ} سبحانه وتعالى جميع المخلوقات لا يضره كفركم ومعاصيكم، كما لا ينفعه شكركم وتقواكم، وقد وصاكم وإياهم بهما؛ لرحمته لكم، لا لحاجته إليكم؛ لأنه سبحانه وتعالى غني عنكم؛ لأن له تعالى {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} من المخلوقات والخزائن.
وفائدة (?) هذا التكرير التأكيد، ليتنبه العباد على سعة ملكه وينظروا في ذلك، ويعلموا أنه غني عن خلقه، ثم زاد ما سلف توكيدًا فقال: {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {غَنِيًّا} عن خلقه، وعن عباداتهم، فلا يزداد جلاله بالطاعات، ولا ينقص بالمعاصي والسيئات، {حَمِيدًا} في ذاته وصفاته وأفعاله؛ أي: مستحقًا لأن يحمد لكثرة نعمه، وإن لم يحمده أحد منكم فهو لا يحتاج إلى شكركم، لتكميل نفسه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}. وفي الحديث القدسي: "يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم .. ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم .. ما نقص ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته .. ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في