يعيرونه بأنه مسحور، فلو وقعت هذه الواقعة .. لكان الكفار صادقين في تلك الدعوى، ولحصل ذكر العيب في النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعلوم أن ذلك غير جائز، وقال أهل السنة: صحة القصة لا تستلزم صدق الكفرة في قولهم: إنه مسحور، وذلك لأنهم كانوا يريدون بكونه مسحورًا أنه مجنون أزيل عقله بسبب السحر، فلذلك ترك دين آبائه، فأما أن يكون مسحورًا بألم يجده في بدنه، فذلك مما لا ينكره أحد.
وبالجملة: فالله تعالى ما كان يسلط لا شيطانًا ولا إنسيًا ولا جنيًا يؤذيه فيما يتعلق بنبوته وعقله، وأما الإضرار من حيث بشريته وبدنه فلا بُعد فيه، وتأثير السحر فيه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن من حيث إنه نبي، وإنما كان في بدنه من حيث إنه إنسان وبشر، فإنه - صلى الله عليه وسلم - يعرض له من حيث بشريته ما يعرض لسائر البشر من الصحة والمرض والموت والأكل والشرب ودفع الفضلات، وتأثير السحر فيه من حيث بشريته لا يقدح في نبوته، وإنما يكون قادحًا فيها لو وُجد للسحر تأثير في أمر يرجع إلى النبوة، ولم يوجد ذلك، كيف؟! والله تعالى يعصمه من أن يضره أحد فيما يرجع إليها، كما لم يقدح كسر رباعيته يوم أحد فيما ضمن الله له من عصمته في قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}. وفي "كشف الأسرار": فإن قيل: ما الحكمة في نفوذ السحر وغلبته في النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولماذا لم يرد الله كيد الكائد إلى نحوه بإبطال مكره وسحره؟.
قلنا: الحكمة فيه الدلالة على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحة معجزاته، وكذب من نسبه إلى السحر والكهانة؛ لأن سحر الساحر عمل فيه حتى التبس عليه بعض الأمر، واعتراه أنواع من الوجع، ولم يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك حتى دعا ربه، ثم دعا، فأجابه الله وبين أمره، ولو كان ما يظهر من المعجزات الخارقة للعادات من باب السحر على ما زعم أعداؤه لم يشتبه عليه ما عُمل من السحر فيه، ولتوصل إلى دفعه من عنده، وهذا بحمد الله تعالى من أقوى البراهين على نبوته، وإنما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة - رضي الله عنها - من بين نسائه بما كشف الله تعالى له من أمر السحر؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان مأخوذًا من عائشة - رضي الله عنها - وهذا السحر على ما روى يحيى بن يعمر قال: حُبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة، فبينما هو نائم أو بين النوم واليقظة إذ أتاه ملكان جلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فهذا يقول للذي عند رأسه ما شكواه؟ قال: السحر، قال: من فعل به؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي، قال: فأين صنع السحر؟ قال: في بئر كذا، قال: فما دواؤه؟ قال: ينبعث إلى تلك البئر،