بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي أنزل القرآن موعظة وشفاء لما في الصدور، وجعله منهلًا عذبًا للورود والصدور، جمع فيه علوم الأولين والآخرين، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، والصلاة والسلام على من أوحي إليه ذلك القرآن من لوح الوجوب والأمر والشأن، سيدنا محمد الذي أجرى من مُسجَّلِهِ ما يحاكي السلسبيل والرحيق، وأفحم بلاغته كل متكلم منطيق، وفسر الآيات في الأنفس والآفاق، على مراد الله الملك الخلاق، وعلى آله وأصحابه المقتبسين من مشكاة أنواره، المغترفين من بحار أسراره، ومن تبعهم بإحسان ممن تخلق بالقرآن في كل زمان.
أما بعدُ: فيقول العبد الفقير المعترف بذنبه وخطأه، المنادي لربه في عفوه وعطاه، الراجي في إسبال سجاف الندى عليه، المناجي في إرسال رسول الهدى إليه، حفظه الله سبحانه وأخلاءه وأعاذه وإياهم من الشيطان الرجيم، وجعل يومه خيرًا من أمسه إلى الإياس من حياة نفسه سمّي محمد الأمين الهرري: إني لمّا فرغت من تفسير الجزء السابع والعشرين من القرآن الكريم عزمت - إن شاء الله تعالى - على الشروع في تفسير الجزء الثامن والعشرين، وإن كان علم التفسير لا يقحم في معاركه كل ذمير وإن كان أسدًا، ولا يحمل لواءه كلّ أمير وإن مات حسدًا، وذلك أظهر من أن يورد عليه دليل كالنيرين لغير كليل، ومع خطر هذا الأمر فالأمد قصير، وفي العبد تقصير وكم ترى من نحرير كامل في التحرير والتقرير قد أصابه سهم القضاء قبل بلوغ الأمل، وذلك بحلول ريب المنون والأجل، أو بتطاول يد الزمان، فإن الدنيا لا تصفو لشارب وان كانت ماء الحيوان، وأي وجود لا ينسج عليه عناكب العاهات، وأي نعيم لا يكدره الدهر؟ هيهات، هيهات:
مِحَنُ الزَّمَانِ كَثِيْرَةٌ لَا تَنْقَضِيْ ... وَسُرُوْرُهُ يَأْتِيْكَ كَالأَعْيَادِ
اللهم: كما عوّدتني في الأول خيرًا كثيرًا فيسر لي الأمر في الآخر تيسيرًا، واجعل رقيمي هذا سببًا لبياض الوجه يوم تبيض وجوه أولئك، وامح مسودات صحائف أعمالي بحق كتابك الكريم، واعف عني بكل حرف كتبته منه ألف ألف سيئة، واكتب لي بكل حرف رقمته منه ألف ألف حسنة، وارفع لي بكل سطر سطرته