جبلته الخبيثة لا بموجب وصية من قبلهم بذلك من غير أن يكون ذلك مقتضى طباعهم.
وفيه (?) إشارة إلى أنَّ أرباب النفوس المتمردة من الأولين والآخرين مركوزة في جبلتهم طبيعة الشيطة من التمرد، والإباء، والاستكبار. فما أتاهم رسول من الأنبياء إلا أنكروا عليه، وقالوا: ساحر بريد أن يسحرنا، أو مجنون لا عبرة بقوله. كأنَّ بعضهم أوصى بعضهم بالتمرد، والإنكار، والجحود؛ لأنهم خلقوا على طبيعة واحدة. بل هم قوم طاغون بأنهم وجدوا أسباب الطغيان من السعة، والتنعم، والبطر، والغنى. قال الشاعر:
إِنَّ الشَّبَابَ وَالفَرَاغَ وَالْجِدَهْ ... مَقسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيُّ مَفْسَدَهْ
فعكسوا الأمر، وكان ينبغي لهم أن يصرفوا العمر والشباب والغنى في تحصيل المطلوب الحقيقيّ.
والمعنى (?): أي كما كذبك قومك من قريش, وقالوا: ساحر أو مجنون فعلت الأمم التي كذبت رسلها من قبلهم، وقالوا مثل مقالتهم. فهم ليسوا ببدع في الأمم، ولا أنت ببدع في الرسل. فكلهم قد كذبوا، وأوذوا فصبروا حتى أتاهم نصر الله تعالى. وفي هذا تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم - على احتمال الأذى والإعراض عن جدالهم؛ فإنهم قد أبطرتهم النعمة، وغرهم الإمهال فلا تجدي فيهم العظة، ولا تنفعهم الذكرى. ثم تعجب من إجماعهم على إنكار نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - , فقال: أَأوْصَى أولهم آخرهم بتكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم - فقبلوا ذلك منهم. ثم أضرب عن أن الذي جمعهم على هذا القول هو التواصي إلى أنّ الذي جمعهم على ذلك هو الطغيان، فقال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}؛ أي: بل الذي جمعهم على ذلك هو الطغيان، وتجاوز حدود الدين والعقل. فقال متأخرهم: مثل مقالة متقدمهم. ثم سلى رسوله بقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ}.
54 - ثم أمر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالأعراض عنهم فقال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ}؛ أي: أعرض عنهم، وكف عن جدالهم ودعائهم إلى الحق. فقد فعلت ما أمرك الله به،