مَعَ رُسُلِهِمْ، وَأَنَّ الْجُمْهُورَ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمْ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِلْإِتْرَافِ بِالْفُسُوقِ وَالْإِسْرَافِ، وَهُوَ غَايَةُ الْفَسَادِ وَالْإِفْسَادِ، فَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ سِيَاجُ الدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ.
وَصَرَّحَ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا (117) بِأَنَّ سُنَّتَهُ فِي الْأُمَمِ أَنَّهُ لَا يُهْلِكُ الْقُرَى " بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ " فِي الْأَرْضِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْأُمَمِ بـ الْقُرَى وَهِيَ عَوَاصِمُ مُلْكِهَا ; لِأَنَّهَا مَأْوَى الزُّعَمَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ الْحَاكِمِينَ الَّذِينَ تَفْسُدُ الْأُمَمُ بِفَسَادِهِمْ، وَتَصْلُحُ بِصَلَاحِهِمْ، وَهِيَ حَقَائِقُ فَسَّرَهَا عِلْمُ الِاجْتِمَاعِ الْحَدِيثِ، وَإِنَّنَا لَنَرَى مِصْدَاقَهَا بِأَعْيُنِنَا. وَالَّذِينَ يَتَعَبَّدُونَ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ دُونَ مَعَانِيهِ لَا يَعْتَبِرُونَ بِهَا لِأَنَّهُمْ لَا يُفَقِّهُونَ مَا فِيهِ، وَسَنَعُودُ إِلَى ذِكْرِهَا فِي بَيَانِ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْبَابِ السَّادِسِ، وَلَابُدَّ مِنَ التَّكْرَارِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ.
فَهَذِهِ التِّسْعُ مِنْ أُمَّهَاتِ الْفَضَائِلِ تَكْفِي مَنْ تَدَبَّرَهَا عِلْمًا وَعِرْفَانًا، وَهِدَايَةً وَإِرْشَادًا لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ الَّتِي هِيَ الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَفِي السُّورَةِ مِنَ الْفَضَائِلِ الَّتِي تُسْتَمَدُّ فِيهَا مِنْ سِيرَةِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَيُقْتَدَى بِهِمْ فِيهَا، وَجَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ مُطَالَبُونَ مَعَهُمْ بِهَا فَنُشِيرُ إِلَيْهَا تَتِمَّةً لِلْعَدَدِ.
(الْعَاشِرَةُ: الْبَيِّنَةُ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - فِي الدِّينِ) :
إِنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي صِفَاتِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ وَالْآيَاتِ، يُشَارِكُهُمْ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ بِهِمْ بِالِاتِّبَاعِ لَهُمْ فِيهَا كَمَا قَالَ اللهُ - تَعَالَى - لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ خَاتَمُهُمْ: - قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي - 12: 108 فَبَصِيرَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقْتَبَسَةٌ مِنْ نُورِ الْقُرْآنِ، تَلَقَّاهُ هُوَ مِنْ وَحْيِ اللهِ، وَتَلَقَّيْنَاهُ نَحْنُ مِنْ تَبْلِيغِهِ عَنْ رَبِّهِ وَرَبِّنَا - عَزَّ وَجَلَّ - مُؤَيَّدًا بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَإِنَّمَا الْمَحْرُومُ مِنْ نُورِهِ، مَنْ يَتَلَقَّى عَقِيدَتَهُ وَعِبَادَتَهُ مِنْ غَيْرِهِ.
(الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الْحُرِّيَّةُ وَالِاسْتِقْلَالُ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ) :
قَالَ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ رَسُولِهِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: - قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ - 28 فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي بَلَّغَهَا أَوَّلُ الْمُرْسَلِينَ لِقَوْمِهِ، وَمِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - لِخَاتَمِ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ: - وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ - 10: 99 وَمِنْ إِنْزَالِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ إِمْكَانِ الْإِكْرَاهِ فِي عَهْدِ الْقُوَّةِ: - لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ - 2: 256 أَنَّ دَعْوَةَ الدِّينِ وَالْهُدَى تَقُومُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْحُجَّةِ، لَا كَمَا فَعَلَ نَصَارَى الْإِفْرِنْجِ وَلَا تَزَالُ تَفْعَلُ بَعْضُ دُوَلِهِمْ مِنْ نَشْرِ النَّصْرَانِيَّةِ بِالْإِكْرَاهِ وَالْقُوَّةِ، أَوْ بِالْخِدَاعِ وَالْحِيلَةِ، فَعَلَى