(الثَّانِي) أَذَانُ الْمُشْرِكِينَ (إِعْلَامُهُمْ) بِذَلِكَ أَذَانًا عَامًّا فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ عِيدُ النَّحْرِ الَّذِي تَجْتَمِعُ بِهِ وُفُودُ الْحَاجِّ مِنْ جَمِيعِ الْقَبَائِلِ فِي مِنًى بِحَيْثُ يَعُمُّ هَذَا الْبَلَاغُ جَمِيعَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يُحَرِّمُ الْغَدْرَ وَأَخْذَ الْمُعَاهِدِينَ عَلَى غِرَّةٍ، فَكَّانِ لَا بُدَّ مِنْ إِعْلَامِهِمْ بِذَلِكَ بِمَا يَنْتَشِرُ فِي جَمِيعِ قَبَائِلِهِمْ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْوَسِيلَةَ الْوَحِيدَةَ لِعِلْمِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ بِعَوْدِ حَالَةِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِنْ عَدْلِ الْإِسْلَامِ وَرَحْمَتِهِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ دَوْلَةٌ وَلَا رَئِيسٌ عَامٌّ يُبَلِّغُهُمْ مَا يَتَعَلَّقُ بِشُئُونِهِمْ وَمَصَالِحِهِمُ الْعَامَّةِ فَيُكْتَفَى بِإِبْلَاغِهِ مِثْلَ هَذَا كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي الدُّوَلِ الْمَلَكِيَّةِ أَوِ الْجُمْهُورِيَّةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِهِمْ صُحُفٌ مُنَشَّرَةٌ عَامَّةٌ وَلَا آلَاتٌ لِلْأَخْبَارِ الْبَرْقِيَّةِ تَنْشُرُ مِثْلَ هَذَا الْبَلَاغِ.
(الثَّالِثُ) مَنْحُهُمْ هُدْنَةً أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَسِيحُونَ فِي الْأَرْضِ حَيْثُ شَاءُوا آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ أَحْرَارًا فِي سَيْرِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ وَسَائِرِ أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ لِيَتَرَوَّوْا فِي أَمْرِهِمْ، وَيَتَشَاوَرُوا فِي عَاقِبَتِهِمْ. وَفِي هَذَا مِنْ رَحْمَةِ الْقَادِرِ بِعَدُوِّهِ مَا يَفْتَخِرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ بِحَقٍّ. وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ صَرِيحَةٌ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الْأُولَى مِنَ السُّورَةِ (ص 133 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(الرَّابِعُ) وَعْظُهُمْ بِأَنَّهُمْ إِنْ تَابُوا مِنْ شِرْكِهِمْ وَمَا يُغْرِيهِمْ بِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْمُؤْمِنِينَ
وَقِتَالِهِمْ وَالْغَدْرِ بِهِمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُعْجِزُوا اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ يُعْجِزُوهُ هَرَبًا مِنْهَا، وَقَدْ وَعَدَ بِنَصْرِ رَسُولِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَكْثُرَ أَتْبَاعُهُ وَيُبَايِعَهُ أَنْصَارُهُ، وَأَنْجَزَ لَهُ وَعْدَهُ فِي جُمْلَةِ غَزَوَاتِهِ مَعَهُمْ، وَسَبَبُ هَذَا الْوَعْظِ أَنَّ الْإِيمَانَ أَمْرٌ اخْتِيَارِيٌّ طَرِيقُهُ الْمُوَصِّلُ إِلَيْهِ الدَّعْوَةُ وَدَلَائِلُ الْإِقْنَاعِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي بَقِيَّةِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) إِلَخْ. وَفِيهَا مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ مَا صَدَّقَهُ الْوَاقِعُ.
(الْخَامِسُ) اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ مَنْ نَبْذِ عَهْدِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ عَاهَدَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَلَمْ يَنْقُصُوهُمْ مِنْ شُرُوطِ الْعَهْدِ وَمَوَادِّهِ شَيْئًا، وَلَمْ يُظَاهِرُوا وَيُعَاوِنُوا عَلَيْهِمْ أَحَدًا مِنْ أَعْدَائِهِمُ الْمُشْرِكِينَ وَلَا أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا نَقَضَ أَهْلُ مَكَّةَ الْعَهْدَ، بِمُظَاهَرَةِ أَحْلَافِهِمْ بَنِي بَكْرٍ عَلَى أَحْلَافِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنِي خُزَاعَةَ. وَالْأَمْرُ بِإِتْمَامِ عَهْدِهِمْ إِلَى نِهَايَةِ مُدَّتِهِ، وَتَعْلِيلُهُ بِأَنَّهُ مِنَ التَّقْوَى الَّتِي يُحِبُّهَا اللهُ تَعَالَى، وَهَذَا نَصُّ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ بِشَرْطِ أَنْ يَظَلُّوا مُسْتَقِيمِينَ عَلَيْهِ كَمَا بَيَّنَهُ فِي الْآيَةِ السَّابِعَةِ.
(السَّادِسُ) الْأَمْرُ فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةِ بِاسْتِعْمَالِ جَمِيعِ أَسْبَابِ الْقِتَالِ مَعَهُمْ بَعْدَ انْسِلَاخِ أَشْهُرِ الْهُدْنَةِ الَّتِي ضُرِبَتْ لَهُ وَحَرُمَ فِيهَا، وَهِيَ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ وَالْحَصْرُ وَالْقُعُودُ لَهُمْ فِي جَمِيعِ الْمَرَاصِدِ لِمُرَاقَبَتِهِمْ وَمَنْعِهِمْ مِنَ التَّجْوَالِ وَالتَّغَلُّبِ فِي الْبِلَادِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى شَرْعِيَّةِ اسْتِعْمَالِ مَا يَتَجَدَّدُ بَيْنَ الْبَشَرِ مِنْ وَسَائِلِ الْقِتَالِ الْمُوَافِقَةِ لِأُصُولِ الْإِسْلَامِ الْعَادِلَةِ، فَإِنِ اسْتَعْمَلَ الْعَدُوُّ