وَعُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَمُفْرَدَاتِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَسَالِيبِهَا، وَكَذَا بِعُلُومِ الْكَوْنِ وَشُئُونِ الْبَشَرِ وَسُنَنِ اللهِ فِي الْخَلْقِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ الْمُكْتَسَبَةَ مِنْ نَقْلِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ هِيَ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ، وَنَوْعٌ وَهْبِيٌّ ; وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى بِالْفَهْمِ الَّذِي يُؤْتِيهِ اللهُ عَبْدًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ مَا بِهِ يَفْضُلُ أَهْلُ الْعِلْمِ الْكَسْبِيِّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَمَنْ لَا حَظَّ لَهُ مِنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ وَالسُّنَنِ وَالْآثَارِ لَا حَظَّ لَهُ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ الْوَهْبِيِّ ; لِأَنَّ الْكَسْبِيَّ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يُثْمِرُ الْعِلْمَ الْوَهْبِيَّ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَسْطَلَانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ قَوْلَ عَلِيٍّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اسْتِخْرَاجِ الْعَالِمِ بِفَهْمِهِ مِنَ الْقُرْآنِ مَا لَمْ يَكُنْ مَنْقُولًا عَنِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَدِ اشْتَرَطَ الْعُلَمَاءُ لِكُلِّ فَهْمٍ جَدِيدٍ فِي الْقُرْآنِ شَرْطَيْنِ ; أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوَافِقَ مَدْلُولَاتِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَثَانِيهُمَا: أَلَّا يُخَالِفَ أُصُولَ الدِّينِ الْقَطْعِيَّةَ، فَسَقَطَتْ بِذَلِكَ ضَلَالَاتُ الْبَاطِنِيَّةِ وَأَهْلِ الْوَحْدَةِ مَنْ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ وَأَشْبَاهِهِمْ مِنَ الَّذِينَ يَعْبَثُونَ بِكِتَابِ اللهِ بِأَهْوَائِهِمْ ; كَالدَّجَّالِ عُبَيْدِ اللهِ الَّذِي صَنَّفَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ تَصَانِيفَ بِاللُّغَةِ التُّرْكِيَّةِ، حَرَّفَ فِيهَا الْقُرْآنَ أَبْعَدَ تَحْرِيفٍ، بِحَيْثُ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَا عَلَى أُصُولِ الْإِسْلَامِ وَلَا فُرُوعِهِ ; مِنْهَا كِتَابُ (قَوْمٌ جَدِيدٌ) وَكِتَابُ (صوك جواب) أَيِ الْجَوَابُ الْأَخِيرُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ تَنْفِيرُ التُّرْكِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَتَحْوِيلُهُمْ عَنْهُ.
وَقَدْ بَيَّنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ بَيَانٌ لَهُ وَاسْتِنْبَاطٌ مِنْهُ. وَذَكَرْنَا بَعْضَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا فِي التَّفْسِيرِ وَفِي الْمَنَارِ، ثُمَّ رَأَيْنَا النَّقْلَ فِي ذَلِكَ عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، فَقَدْ قَالَ: جَمِيعُ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنَ الْقُرْآنِ. ذَكَرَهُ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ فِي رُوحِ الْبَيَانِ. وَمَنْ أَجْدَرُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَهْمِ الْوَهْبِيِّ مِنَ
الْقُرْآنِ، وَقَدِ اخْتَصَّهُ اللهُ بِإِنْزَالِهِ إِلَيْهِ، وَبِبَيَانِهِ لِلنَّاسِ؟ وَتَقَدَّمَ إِيضَاحُ هَذَا الْبَحْثِ فِي تَفْسِيرِ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَكَابِرَ الصُّوفِيَّةِ مَا لَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمْ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الْقُرْآنِ يَنْبُوعَ عُلُومِ الدِّينِ، بَلْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِكَوْنِهِ يَنْبُوعَ جَمِيعِ الْعُلُومِ وَالْحَقَائِقِ الْكَوْنِيَّةِ كُلِّهَا، وَسَنَعُودُ إِلَى هَذَا الْبَحْثِ فَنُوَفِّيهِ حَقَّهُ، إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (6: 38) وَمَا فِي مَعْنَاهُ.
(وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) رَوَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ بِضْعَةِ رِجَالٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحْرَسُ فِي مَكَّةَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ تَرَكَ الْحَرَسَ، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ أَوَّلَ النَّاسِ اهْتِمَامًا بِحِرَاسَتِهِ، وَحَرَسَهُ الْعَبَّاسُ أَيْضًا، وَمِمَّا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحْرَسُ، وَكَانَ يُرْسِلُ مَعَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ كُلَّ يَوْمٍ رِجَالًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَحْرُسُونَهُ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ، فَقَالَ: يَا عَمِّ، إِنَّ اللهَ قَدْ عَصَمَنِي، لَا حَاجَةَ لِي إِلَى مَنْ