تَبْعَثُ "، " وَمَعْنَى " يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ": يَمْنَعُكَ مِنْ فَتْكِهِمْ، مَأْخُوذٌ مِنْ عِصَامِ الْقِرْبَةِ؛ وَهُوَ مَا تُوكَأُ بِهِ ; أَيْ مَا يُرْبَطُ بِهِ فَمُهَا مِنْ سَيْرِ جِلْدٍ أَوْ خَيْطٍ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ: الْكُفَّارُ الَّذِينَ يَتَضَمَّنُ تَبْلِيغُ الْوَحْيِ بَيَانَ كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَفَسَادِ عَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَالنَّعْيِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَلَفِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَغِيظُهُمْ، وَيَحْمِلُهُمْ عَلَى الْإِيذَاءِ ; لِذَلِكَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَصَدَّوْنَ لِإِيذَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَائْتَمَرُوا بِهِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَرَّرُوا قَتْلَهُ فِي دَارِ النَّدْوَةِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى عَصَمَهُ مِنْهُمْ. وَكَذَلِكَ فَعَلَ الْيَهُودُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ ; وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ فَقَدْ وُضِعَتْ فِي سِيَاقِ تَبْلِيغِ أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عُرْضَةً لِإِيذَائِهِمْ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي عَصَمَهُ مِنْ كَيْدِهِمْ، وَلِتُذَكِّرَ بِمَا كَانَ مِنْ إِيذَاءِ مُشْرِكِي قَوْمِهِ مِنْ قَبْلِهِمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) فَهُوَ تَذْيِيلٌ تَعْلِيلِيٌّ لِلْعِصْمَةِ ; أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَهْدِي أُولَئِكَ النَّاسَ، الَّذِينَ هُمْ بِصَدَدِ إِيذَائِكَ عَلَى التَّبْلِيغِ، وَهُمُ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ، إِلَى مَا يَهُمُّونَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ يَكُونُونَ خَائِبِينَ، وَتَتِمُّ كَلِمَاتُ اللهِ تَعَالَى
حَتَّى يَكْمُلَ بِهَا الدِّينُ.
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أَيْ (قُلْ) لِأَهْلِ الْكِتَابِ، مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فِيمَا تُبَلِّغُهُمْ عَنِ اللهِ تَعَالَى (لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ) يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَلَا يَنْفَعُكُمُ الِانْتِسَابُ إِلَى مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيِّينَ (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) فِيمَا دُعِيَا إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَفِيمَا بَشَّرَا بِهِ مِنْ بَعْثَةِ النَّبِيِّ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ الْمَسِيحُ بِرُوحِ الْحَقِّ، وَبِالْبَارَقْلِيطِ (وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) عَلَى لِسَانِهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَكْمَلَ بِهِ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، عَلَى حَسَبِ سُنَّتِهِ فِي النُّشُوءِ وَالِارْتِقَاءِ بِالتَّدْرِيجِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ: مَا أُنْزِلَ عَلَى سَائِرِ أَنْبِيَائِهِمْ، كَمَا قِيلَ مِثْلُهُ فِي آيَةِ: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ وَلَمْ يَبْعُدِ الْعَهْدُ بِهِ فَنُعِيدُهُ، إِلَّا أَنَّ ذَاكَ حِكَايَةٌ مَاضِيَةٌ، وَهَذَا بَيَانٌ لِلْحَالِ الْحَاضِرَةِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ فِي الزَّمَنَيْنِ قَائِمَةٌ ; فَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُقِيمِينَ لِتِلْكَ الْكُتُبِ قَبْلَ هَذَا الْخِطَابِ، وَلَا فِي وَقْتِهِ، وَلَا كَانَ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ أَنْ يُقِيمُوهَا فِي عَهْدِهِ، كَمَا أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُقِيمُوهَا الْآنَ، فَهَذَا تَعْجِيزٌ لَهُمْ وَتَفْنِيدٌ لِدَعْوَاهُمُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ اتِّبَاعِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، بِاتِّبَاعِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمُ السَّابِقِينَ، وَلَا يَتَضَمَّنُ الشَّهَادَةَ بِسَلَامَةِ تِلْكَ الْكُتُبِ مِنَ التَّحْرِيفِ. وَمِثْلُهُ أَنْ تَقُولَ الْآنَ لِدُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الْأَمْرِيكَانِ وَالْأَلْمَانِ وَالْإِنْكِلِيزِ: يَا أَيُّهَا الدَّاعُونَ لَنَا إِلَى اتِّبَاعِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، نَحْنُ لَا نَعْتَدُّ بِكُمْ، وَلَا نَرَى أَنَّكُمْ عَلَى إِيمَانٍ وَثِقَةٍ بِدِينِكُمْ، وَصِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ فِي