فَأَمَّا الْبَاطِنِيَّةُ فَأَئِمَّتُهُمْ فِي مَذَاهِبِهِمْ زَنَادِقَةٌ تَعَمَّدُوا هَدْمَ الْإِسْلَامِ بِالشُّبَهَاتِ، وَالتَّأْوِيلَاتِ الْمُشَكِّكَاتِ.
وَأَمَّا الْمُتَصَوِّفَةُ فَقَدْ رَاجَ عَلَى بَعْضِهِمْ بَعْضَ تِلْكَ الشُّبَهَاتِ وَالتَّأْوِيلَاتِ ; لِضَعْفِهِمْ فِي عِلْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَاسْتَمْسَكُوا بِالْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ، وَأَخَذُوا بِظَوَاهِرِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الصَّحِيحَةِ كَقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْوِيِّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِعَاءَيْنِ ; فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ مِنِّي هَذَا الْبُلْعُومُ " يُشِيرُ إِلَى عُنُقِهِ ; لِأَنَّهُ إِذَا ذُبِحَ يَنْقَطِعُ بُلْعُومُهُ ; وَهُوَ مَجْرَى الطَّعَامِ، فَجَهَلَةُ الْمُتَصَوِّفَةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ هُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا فِي الْوِعَاءِ الْآخَرِ مِنْ وِعَاءَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَبَعْضُهُمْ يَظُنُّ أَنَّ لِشُيُوخِهِمْ سَنَدًا فِي تَلَقِّي عِلْمِ الْبَاطِنِ، يَنْتَهِي إِلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوْ أَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ.
وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَعْنِي بِمَا كَتَمَ مِنَ الْحَدِيثِ أَحَادِيثَ الْفِتَنِ، وَمَا يَكُونُ مِنَ الْفَسَادِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا عَلَى أَيْدِي أُغَيْلِمَةٍ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ، وَهُمْ بَنُو أُمَيَّةَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ دَعَا اللهَ تَعَالَى أَنْ يُنْقِذَهُ مِنْ سَنَةِ سِتِّينَ وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ، وَقَدْ مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَفِي سَنَةِ سِتِّينَ وَلِيَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، فَعَلِمَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَسْتَعِيذُ بِاللهِ مِنْ إِمَارَتِهِ، وَقَدْ أَعَاذَهُ اللهُ تَعَالَى فَلَمْ يَرَ أَيَّامَهَا السُّودَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي أُغَيْلِمَةِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَمْرَ دِينِهِمْ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: " لَوْ شِئْتُ أَنْ أُسَمِّيَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ لَفَعَلْتُ "، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ ; كَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، أَخْبَارَ الْفِتَنِ وَأُمَرَاءِ الْجَوْرِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يَكْتُمُهَا عِنْدَ وُقُوعِهَا، خَوْفًا مِنِ انْتِقَامِ أُولَئِكَ الْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ الْمُفْسِدِينَ، وَأَمَّا كِتْمَانُ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ بِالْإِجْمَاعِ وَبِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَكَيْفَ يَكْتُمُهُ؟ وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ الْحَدِيثَ، وَلَوْلَا آيَتَانِ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى) (2: 159) إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (الرَّحِيمُ) وَقَوْلَهُ: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ 3: 187) . . . إِلَخْ.
وَرَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثَ: " مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ "، وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَهُ طُرُقٌ حَسَنَةٌ وَصَحِيحَةٌ، وَالْوَعِيدُ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ عَلَى الْكِتْمَانِ مُطْلَقًا.
وَالْحُقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ أَنَّ الرَّسُولَ بَلَّغَ جَمِيعَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَبَيَّنَهُ، وَلَمْ يَخُصَّ أَحَدًا بِشَيْءٍ مِنْ عَلْمِ الدِّينِ، وَأَنَّهُ لَا يَمْتَازُ أَحَدٌ فِي عَلَمِ الدِّينِ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ كَسْبِيٌّ يُتَوَسَّلُ إِلَيْهِ بَعْدَ السُّنَّةِ وَآثَارِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ