سَبِيلِ اللَّهِ)؛ وذلك لأن الجهاد فرض على المسلمين بعد الهجرة إلى المدينة، ولم يوجد منهم الضرب في الأرض في حال كونهم بمكة، وفي هذا إخبار عن جهاد طائفة، وعن ضرب بعض في الأرض؛ فثبت أن نزول هذه الآيات كانت بالمدينة.
واحتجوا - أيضا - بقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)، قالوا: إن الزكاة إنما فرضت عليهم بعدما هاجروا إلى المدينة، وفي هذا أمر بإيتاء الزكاة؛ فثبت أن نزولها كان بالمدينة، وأما أول السورة فهي في موضع المحاجة على أهل الشرك، ولم يكن بالمدينة مشرك؛ بل كانوا أهل كتاب.
ومن ذكر أنها كلها مكية، فهو يحمل قوله: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) على الوعد والبشارة، ليس على الإيجاب والوجوب؛ ألا ترى إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى)، فأخبر أنه سيكون منكم مرضى، لا أن كانوا مرضى في ذلك الوقت؛ فلم يكن فيما ذكر دلالة كونها مدنية.
ثم الآية إن كانت على الوعد؛ ففيه أنهم كانوا في ضيق من العيش، وكانوا من القوم في خوف؛ فيكون فيه بشارة أنه يرفع عنهم الضيق بما يضربون في الأرض، ويوسع عليهم العيش، وأنه يفتح لهم الفتوح، ويكثر أنصارهم حتى يقهروا العدو، ويقع لهم من ناحيتهم الأمن، وقد آل الأمر إلى ما بشروا به، فيه آية رسالته - عليه السلام - إذ أخبرهم عن علم الغيب، وكان الأمر على ما أخبر.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى) في موضع الاعتلال، أنه إنما خفف عليهم الأمر بما ذكر من الأعذار من المرض، والضرب في الأرض، والمجاهدة في سبيل اللَّه تعالى، والتخفيف إذا وجب لعذر مما لم يلاق العذر حالة الفعل، لم يخفف؛ فكيف خفف عنهم قبل وقوع الأعذار، ولكن هذه الأعذار وإن تحققت هي لا تلاقي الفعل؛ بل تتقدمه؛ لأن المجاهدة تكون بالنهار، لا بالليل، وكذلك الضرب في الأرض وقت النهار لا الليل، والقيام كان بالليل ليس بالنهار، ثم قد وضع عنهم قيام الليل وإن لم يكن العذر ملاقيا للقيام؛ فعلى ذلك جائز أن يرفع عنهم القيام بالليل وإن لم يأت بعد وقت المجاهدة، ولا كان الضرب موجودا؛ إذ ليس في ذلك كله إلا عدم ملاقاة العذر حالة القيام.