ثم من الناس من يزعم أن فرض القيام سقط عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وعن أمته؛ واستدل بقوله: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ)؛ فإن كان الفرض عليه قائما، لم يكن التهجد به نافلة.
ومنهم من زعم أنه لم يسقط عنه فرض القيام؛ بل دام عليه إلى أن قبض - عليه السلام -.
واحتج بما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " كُتب عليَّ قيام الليل، ولم يكتب عليكم "، ومعناه: بقي عليَّ مكتوبا، ورفع عنكم؛ إذ قد دللنا أن القيام في الابتداء كان واجبًا عليه وعليهم جميعا.
وقد قال بعض الناس: إن صلاة الليل، لم تكن فرضا على أمته بهذا الحديث، وما ذكرناه عليهم.
ثم الجواب عن التعلق أن قوله: (فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ) معناه: غنيمة لك، لا أن يكون القيام منه تطوعا.
ووجه صرفه إلى الغنيمة: هو أن العبادة من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تخرج مخرج الشكر لله تعالى؛ فيصير بها مكتسبا للفضيلة، وليس يقع ذلك موقع التكفير للسيئات؛ لأنه تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فلم يكن يحتاج إلى إتيان الحسنات؛ ليكفر عنه السيئات؛ فثبت أن الفعل منه يقع موقع اكتساب الفضيلة؛ فتدوم له بذلك الفضيلة ويستوجب بها جزيل الثواب، وذلك من أعظم الغنائم.
والذي يدل على أن فعله يخرج مخرج الشكر: ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قام حتى تورمت قدماه؛ فقيل له: يا رسول اللَّه، ألم يغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال - عليه السلام -: " أفلا أكون عبدا شكورا؟ "، وأما غيره فإن الحسنات منهم مكفرة لسيئاتهم، ومطهرة لزلاتهم؛ قال اللَّه تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)؛ فهم بحسناتهم لم يصيروا مكتسبين الفضيلة في مستأنف الأوقات، فيصيروا بها مغتنمين، بل رفعوا زلاتهم، وطهروا أنفسهم من المآثم؛ فلم تصر القربة منهم، واللَّه أعلم.
فلهذا ما سمى تهجده: نافلة، لا أن يكون قيامه نفلا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
فمنهم من زعم أن هذه السورة كلها مكية، ومنهم من زعم أن أولها مكية، وآخرها مدنية، ويحتج هَؤُلَاءِ بقوله تعالى: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ)، وبقوله: [(يُقَاتِلُونَ] فِي