ويكشف عن ذلك أَيضًا عند اعترافهم بأن لا علم لهم إلا ما علمهم اللَّه (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. . .) الآية، ولو لم يكن منهم ما استحقوا به التأْديب والتنبيه عنْ غفلة سبقت منهم، لم يكن لذلك كثيرُ معنى؛ إذ لا يخفى على اللَّه عز وجل عِلْمُ ما ذكر من الكفرة الأشقياءِ، فضلًا عن الكرام البررة.
ولكن قد يعاتب الأخيار عند الهفوة، والزلة بما يحل من خوف التنبيه والتوبيخ: نحو قولِهِ: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ).
وقوله لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ. . .) الآية.
ولملائِكته: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِ).
واستجازوا إمكان العصيان عند المحنة.
ودليلُ المحنة ما بينا من الفعل بالأمن والخوف المذكورين، وما مدحوا بعبادتهم لله تعالى، وما أوعدوا لو ادعَوا الألوهية؛ ولما لم يحتمل أن يُحمدوا على العبادة والطاعة فيما كان فعلهم على الخير والشر، ولا تعظم المحنة فيما لا يمكن المعصية، ولا تحتملها البنْية؛ إذ الطاعة هي في اتقاءِ المعصية.
وقال أَيضًا: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ)، ولا يقال مثله لمن لا يحتمل فعل المعصية.
فثبت أن المعاصي منهم ممكنة؛ ولذلك خَطَرُ طاعاتهم، وعِظمُ قَدرِ عباداتهم، والممتَحَن مَخُوف منه الزلة والهفوة، بل المعصية، وكل بلاء إلا أَن يعصمه اللَّه تعالى ويحفظه، وذلك من اللَّه إفضال وإحسان لا يُستَحق قبلَه، ولا يُلْزمه أحد من خلقه.
فجائِز الابتلاء به مع ما في زلة أمثالهم من ترك الرجاء بالخلق، وقطع الإياس، والحث على الفراغ إلى اللَّه تعالى بالعصمة والمعونة؛ إذ لم يقم لطاعته أحد وإِن جَل قَدرُهُ عند ما وُكِل إلى نفسه مما يعلم اللَّه أَنه يَختار في شيء الخلاف، لا أَنه يفزع إليه وينزع إليه.
وعلى ذلك معنى زَلات الرسل عليهم الصلاة والسلام.
وزعم قوم أَن ذلك ليس منهم بالزلة، بل اللَّه تعالى عصمهم عنها، ولكن قوله: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا) يخرج على وجهين:
أَحدهما: على السؤال بعد أَن أعلمهم اللَّه أَنهم يفعلون؛ فقالوا: كيف يَفْعلون ذلك، وقد خلقتهم ورزقتهم وأَكرمتهم بأَنواع النعم، ونحن إذ خلقتنا نُسبحك بذلك، ونقدس