وقوله: (مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: من كل ناحية من فوق؛ ومن تحت؛ ومن خلف، ومن قدام؛ كقوله: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ)، وقال: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ)، أخبر أن النار تأتيهم وتأخذهم من كل جانب ومن كل جهة.
ويحتمل (مِنْ كُلِّ مَكَانٍ): أي: ومن كل سبب من تلك الأسباب التي تأتيهم؛ ما لو كان قضاؤه الموت - لماتوا بكل سبب من تلك الأسباب.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ليس من موضع من جسده ومن سائر جوارحه - إلا الموت يأتيه منها؛ من شدة ما يحل بهم؛ حتى يجدوا طعم الموت وكربه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ وَرَائِهِ) أي: ومن وراء ذلك العذاب - عذاب غليظ لا ينقطع ولا يفتر، وصفه بالغلظ والشدة؛ لدوامه والإياس عن انقطاعه. واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ) هو - واللَّه أعلم -: على التقديم أوالتأخير؛ أي: مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد اشتدت به الريح.
ثم تحتمل (أَعْمَالُهُمْ): الأعمال التي كانت لهم في حال إيمانهم، ثم كفروا، بما أحدثوا من الكفر؛ أبطل ذلك الأعمال الصالحة في الإيمان؛ وهو ما ذكر: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ).
أو يكون محاسنهم التي كانت لهم في حال الكفر؛ طمعوا أن ينتفعوا بتلك المحاسن في الآخرة؛ فما انتفعوا بها؛ فصارت كالرماد الذي تذروه الريح الشديدة؛ لم ينتفع صاحب ذلك الرماد به بعد ما عملت به الريح ما عملت؛ فعلى ذلك: الأعمال الصالحة التي عملوها في حال كفرهم، أو أعمالهم الصالحة التي كانت لهم في حال الإيمان؛ ثم أحدثوا الكفر - لا ينتفعون بها.
وقال في آية أخرى: (أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ)، فيشبه أن يكون هذا في أعمالهم السيئة في أنفسها فرأوها صالحة حسنة؛ كقوله: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا)، فشبه ما كان في نفسه سببًا بالسراب؛ لأنه لا شيء هنالك؛ إنما يرى