قوله تبارك وتعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} يتناول الصنفين من وجوه، تقدم منها وجهان.
يعني: أنه يشمل الجن ويشمل الإنس؛ لأن أساس السياق كان في إثبات أن الجن مكلفون كالإنس، ويترتب على أعمالهم الثواب والعقاب، فمحسنهم في الجنة كما أن مسيئهم في النار، قال الله تعالى حكاية عن المؤمنين من الجن: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا} [الجن:13]، وبهذه الحجة احتج البخاري.
قوله: ((فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا)) البخس هو: نقصان الثواب، والرهق هو: الزيادة في العقوبة على ما عمل، فلا ينقص من ثواب حسناته ولا يزاد في سيئاته، وهذا مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112] أي: لا تزاد سيئاته عما عمل ولا تنقص حسناته عما عمل ولا ينقص ثوابها.
وقال تعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا)) يعني: يا معشر الجن والإنس! ((تُكَذِّبَانِ)) ثم ذكر ما في الجنتين إلى أن قال: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، فهذا يدل على أن محسنهم -أي: الجن- في الجنة؛ لأن قوله تعالى: ((لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ)) يعني: إنس من أهل الجنة ولا جن من أهل الجنة.
فقوله: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)) هذه صفة عموم، فتتناول كل من خاف مقام ربه سواء كان من الجن أو الإنس.
كذلك رتب الجزاء المذكور على خوف مقامه، فكل من أتى بالشرط ينال الجزاء، أي: فكل من خاف مقام الله فإنه يكون له جنتان سواء كان من الجن أو من الإنس.
لقد استطرد ابن القيم في المقصود بقوله: ((مَقَامَ رَبِّهِ)) ثم عاد إلى المسألة الأصلية التي كان يتكلم فيها فقال أيضاً: قول الله سبحانه وتعالى عقب هذا الوعد: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) أيضاً يدل على ذلك.
وأيضاً: وصف نساء أهل الجنة بقوله: ((لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ)) يعني: لم يطمث نساء الإنس إنس قبلهم، ولا نساء الجن جن قبلهم.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30]، وهذا يشمل الجن أيضاً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث للثقلين، ثم قال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الكهف:31] وأمثال هذا من العمومات، وقد ثبت أن منهم المؤمنين فيدخلون في العموم كما أن كافرهم يدخل في الكافرين المستحقين للوعيد، ودخول مؤمنهم في آيات الوعد أولى من دخول كافرهم في آيات الوعيد، فإن الوعد فضله والوعيد عدله، وفضله من رحمته وهي التي تغلب غضبه.
وأيضاً: فإن دخول عاصيهم النار إنما كان لمخالفته أمر الله، فإذا أطاع الله دخل الجنة.
وأيضاً: فإنه لا دار للمكلفين سوى الجنة والنار، وكل من لم يدخل النار من المكلفين فالجنة مثواه.
وأيضاً: ثبت أنهم إذا أجابوا داعي الله غفر لهم وأجارهم من عذابه، وكل من غفر الله له دخل الجنة ولابد، وليس فائدة المغفرة إلا الفوز بالجنة والنجاة من النار.
وأيضاً: ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث إليهم وأنهم مكلفون باتباعه، وأن مطيعهم لله ورسوله مع الذين أنعم الله عليهم كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:69]، إلى آخر الآية.
وأخبر الله سبحانه وتعالى عن ملائكته حملة العرش ومن حوله أنهم يستغفرون للذين آمنوا، سواء من الجن أو الإنس، وأنهم يقولون: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم} [غافر:7 - 8]، فدل على أن كل مؤمن غفر الله له ووقاه عذاب الجحيم فقد وعده الجنة، وقد ثبت في حق مؤمنهم الإيمان ومغفرة الذنب ووقاية النار كما تقدم فتعين دخولهم الجنة.
قوله: ((جَنَّتَانِ)) يقول القاسمي: أي: جنة لمن أطاع من الإنس وجنة لمن أطاع من الجن، أو هو كناية عن مضاعفة الثواب وإيثار التثنية للفاصلة، وهذا كلام فيه نظر، لكن الصحيح والأظهر في تفسير الآية: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)) يعني: جنتان كل على حدة، فلكل خائف جنتان.
كما لا يصح في قول الله تبارك وتعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] أن يقال: هم عشرون، لكن لأجل الفاصلة قال: هم تسعة عشر، هذا لا يجوز أبداً وما ينبغي.