ترجيح ابن القيم بين الأقوال في قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه)

وللإمام ابن القيم كلام قيم جداً في الترجيح بين القولين اللذين ذكرناهما في تفسير الآية: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ))، هل هي ولمن خاف مقامه بين يدي الله يوم القيامة للحساب، أو ولمن خاف قيام الله عليه وشهوده واطلاعه على أعماله في الدنيا، فيتقي منه ويترك المعصية.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى مرجحاً أن المعنى: ولمن خاف مقامه بين يدي ربه في الحساب يوم القيامة.

أي: أن الإنسان يهم بالمعصية فيتذكر أنه واقف بين يدي الله يوم القيامة وأنه محاسب فينزجر عنها، هذا الذي يرجحه ابن القيم وترجيحه هذا لوجوه: الأول: أن طريقة القرآن في التخويف أن يخوفهم بالله واليوم الآخر، فإذا خوفهم به علق الخوف به لا بقيامه عليهم، كقوله تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8]، وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12]، ففي هذا كله لم يذكر خشية مقامه عليهم، وإنما مدحهم بخوفه عز وجل وخشيته، وقد يذكر الخوف متعلقاً بعذابه، كقوله تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57]، وأما خوف مقامه عليهم فهو وإن كان كذلك فليس طريقة القرآن.

الثاني: أن هذا نظير قوله تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام:51]، فخوفهم أن يحشروا إليه هو خوفهم من مقامهم بين يديه، والقرآن يفسر بعضه بعضاً فقوله: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام:51]، معناها: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)) يعني: من خاف مقام ربه للحساب بين يدي الله بعد الحشر.

الثالث: أن خوف مقام العبد بين يدي ربه في الآخرة لا يكون إلا ممن يؤمن بلقائه وباليوم الآخر وبالبعث بعد الموت، وهذا هو الذي يستحق الجنتين المذكورتين، فإنه لا يؤمن بذلك حق الإيمان إلا من آمن بالرسل، وهو من الإيمان بالغيب الذي جاءت به الرسل، وأما مقام الله على عبده الدنيا واطلاعه عليه وقدرته عليه على القول الثاني فهذا يقر به المؤمن والكافر والبر والفاجر، وأكثر الكفار يخافون جزاء الله لهم في الدنيا لما عاينوه من مجازاة الظالم بظلمه، والمحسن بإحسانه، وأما مقام العبد بين يدي ربه في الآخرة فلا يؤمن به إلا المؤمن بالرسل.

فإن قيل: إذا كان المعنى أنه خاف مقام ربه عليه في الآخرة فقد استوى التقديران، فمن أين رجحتم أحدهما؟ قيل: التخويف من مقام العبد بين يدي ربه أبلغ من التخويف بمقام الرب على العبد؛ ولهذا خوفنا الله سبحانه وتعالى بقوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]؛ لأنه مقام مخصوص مضاف إلى الله تبارك وتعالى وذلك في يوم القيامة، بخلاف مقام الله على العبد فإنه في كل وقت.

وأيضاً: فإنه لا يقال لقدرة الله على العبد واطلاعه عليه وعلمه به: مقام الله، ولا هذا من المألوف إطلاقه على الرب.

وأيضاً: فإن المقام في القرآن والسنة إنما يطلق على المكان كقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وقوله تعالى: {خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم:73].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015