يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: اعلم أولاً أن السؤال المنفي في قوله هنا: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ))، وقوله: ((وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)) هذا السؤال أخص من السؤال المثبت في قوله: ((فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)) * ((عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ))؛ لأن هذه فيها تعميم السؤال في كل عمل، والآيتان قبلها ليس فيهما نفي السؤال إلا عن الذنوب خاصة.
وللجمع بين هذه الآيات أوجه معروفة عند العلماء: الأول منها -وهو الذي دل عليه القرآن الكريم، وهو محل الشاهد عندنا من بيان القرآن بالقرآن هنا- هو: أن السؤال نوعان: أحدهما: سؤال التوبيخ والتقريع، وهو من أنواع العذاب.
والثاني: هو سؤال الاستخبار والاستعلام.
فالسؤال المنفي في بعض الآيات هو سؤال الاستخبار والاستعلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعلم بأفعالهم منهم أنفسهم، كما قال عز وجل: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6].
يعني: أن العبد نفسه ينسى معاصيه، فإذا واجه الحساب يوم القيامة يكون قد نسيها، لكن الله سبحانه وتعالى أحصاها عليه.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (لا يسألهم: هل عملتم كذا وكذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول: لم عملتم كذا وكذا؟).
ثم يقول الشنقيطي رحمه الله: وعليه فالمعنى: ((لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ)) سؤال استخبار واستعلام؛ لأنه أعلم بذنبه منه.
والسؤال المثبت في الآيات الأخرى هو سؤال التوبيخ والتقريع، سواء كان عن ذنب أو عن غير ذنب، ومثال سؤالهم عن الذنوب سؤال توبيخ وتقريع قول الله سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران:106].
ومثاله عن غير ذنب قول الله تبارك وتعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:24 - 26] وقوله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:13 - 15] وقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130].
أما سؤال الموءودة في قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير:8] فلا يعارض الآيات النافية السؤال عن الذنب؛ لأنها سئلت عن أي ذنب قتلت.
وهذا ليس من ذنبها، والمراد بسؤالها توبيخ قاتلها وتقريعه؛ لأنها هي تقول: لا ذنب لي، فيرجع اللوم على من قتلها ظلماً.
وكذلك سؤال الرسل فإن المراد به توبيخ من كذبهم وتقريعه، مع إقامة الحجة عليه بأن الرسل قد بلغته.
يعني: سوف يقع في يوم القيامة سؤال الرسل، وهذا لا مانع من وقوعه؛ لأنه ليس عن ذنب فعلوه؛ ولأن المنفي هو خصوص السؤال عن ذنب: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ))، وقال في الآية الأخرى: ((وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ))، فالنهي هو عن الذنب بالذات، أما الرسل فإنهم يسألون كما في قوله تبارك وتعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب:8]، ومن ذلك سؤال الله سبحانه وتعالى المسيح عليه السلام: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} [المائدة:116]، إلى قوله تبارك وتعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119].
هناك أوجه أخرى للجمع بين هذه الآيات ربما مررنا على معظمها، لكن العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى يقول هنا: وباقي أوجه الجمع بين الآيات لا يدل عليه قرآن، وموضوع هذا الكتاب -أي: كتاب أضواء البيان- بيان القرآن بالقرآن.
فهذه لفتة مهمة جداً حتى نعرف أن هذا الكتاب المبارك مختص بتفسير القرآن بالقرآن أساساً، ولذلك من لم يفهم عنوان الكتاب (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) يظن أنه كتاب شامل لتفسير جميع آيات القرآن الكريم بينما هو يتعرض فقط للآيات التي شرحت بآيات أخرى، أي: تفسير القرآن بالقرآن الكريم.
هناك تفسير آخر لقوله: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ)) يعني: لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم، وإنما كل إنسان يسأل عما فعل.
يقول مجاهد في تفسير هذه الآية: ((لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ)): لا تسأل الملائكة عن المجرمين بل يعرفون بسيماهم بدليل ما بعدها وهي قوله تعالى: ((يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ)).
قال بعض المفسرين: إن هذا بعدما يؤمر بهم إلى النار، فذلك الوقت لا يسألون عن ذنوبهم، بل يقادون إليها ويلقون فيها.