قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في طريق الهجرتين: اختلف في هذا السؤال المنفي الذي في قوله: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ)) فقيل: هو وقت البعث والمصير إلى الموقف، لا يسألون حينئذ في بداية البعث والتحرك إلى موقف العرض الأكبر، وفي حال أخرى يسألون بعد إطالة الوقوف واستشفاعهم إلى الله سبحانه وتعالى أن يحاسبهم ويريحهم من مقامهم ذلك.
وقيل: المنفي هو سؤال الاستعلام والاستخبار، أي: لا يسألون سؤال استعلام واستخبار؛ لأن الله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم، وإنما هو سؤال التوبيخ والتقريع كما سنبين إن شاء الله تعالى.
إذاً: المنفي سؤال الاستعلام والاستخبار لا سؤال المحاسبة والمجازاة، أي: قد علم الله ذنوبهم، فلا يسألهم عنها سؤال من يريد علمها وإنما يحاسبهم عليها.
يقول قتادة رحمه الله تعالى: قد كانت مسألة ثم ختم على أفواه القوم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.
يعني: حصل السؤال في مرحلة معينة ثم بعد ذلك: ((لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ)) لأنه يختم على الأفواه وتتكلم الأيدي والأرجل بما كانوا يعملون، وتشهد أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون.
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أنه يوم القيامة لا يسأل إنساً ولا جاناً عن ذنبه؛ لأن يوم القيامة مواطن وأحوال، وهو يوم طويل جداً، فيسأل في حال ولا يسأل في حال أخرى، وقد بين هذا المعنى في قوله تبارك وتعالى في سورة القصص: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78]، قال ابن كثير: هذا في حال وثم حال يسأل الخلائق فيها عن جميع أعمالهم.
وذكر جل وعلا في آيات أخر أنه يسأل جميع الناس يوم القيامة، فيسأل الرسل والمرسل إليهم، كما في قوله عز وجل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، وقال تبارك وتعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93].
نلاحظ هنا ملاحظة دقيقة جداً وهي: أنه في حالة النفي قال الله تبارك وتعالى: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ)) فالسؤال هنا المنفي قيد بأن يكون سؤالاً عن الذنب فقط، كذلك في الآية الأخرى في قوله تبارك وتعالى: ((وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)) فإذاً: هذا يمهد لجواب آخر في الجمع بين هذه الآيات، فجاءت آيات تدل على أن الجميع سوف يسألون: ((فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ))، وقال تبارك وتعالى: ((فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)) * ((عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) وهذه تعم كل شيء، وقد جاءت آيات أخرى مبينة لوجه الجمع بين هذه الآيات، التي قد يظن غير العالم أن بينها اختلافاً.