وجوب النصح وإصلاح ذات البين

فهذه الآية تدل أيضاً على وجوب تقديم النصح؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ((فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)) فهذا أمر، والأمر يدل على الوجوب، وقال عز وجل أيضاً: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1] وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن فساد ذات البين هي الحالقة، وقال: (لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين).

فالآية تفيد وجوب تقديم النصح: ((فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا))، وعلى السعي في المصالحة، وذلك ظاهر في قوله: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)) يعني: ليس بمجرد الكلام والاقتراح، ولكن بالسعي الدءوب والعملي إلى الإصلاح، حتى لو وصل إلى قتال الفئة الباغية، فإذاً: هذا يدل على أن النصح ليس نصحاً مجرداً، وإنما معه إجراءات عملية.

وهنا الآية بدأت بمثنى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فوجه الجمع في (اقتتلوا) هو الحمل على المعنى دون اللفظ؛ لأن الطائفتين بمعنى القوم والناس، والنكتة في اعتبار المعنى أولاً واللفظ ثانياً عكس المشهور في الاستعمال -فالمشهور في الاستعمال اعتبار اللفظ أولاً ثم المعنى ثانياً- والنكتة في ذلك ما قيل: إنهم أولاً في حال انقسامهم مختلفون مجتمعون، فلذا جمع أولاً ضميرهم، وفي حال الصلح متميزون متفارقون، فلذا ثنى الضمير: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا).

ثم قال: (فأصلحوا بينهما) فثنى على أساس أنهم في ساحة القتال يكون كل واحد منحازاً، فهم طائفتان متمايزتان.

وناسب قرن الإصلاح الثاني بالعدل دون الأول، لأن الإصلاح الثاني وقع بعد المقاتلة ففيه مظنة للتحامل عليهم بالإساءة، أو لإيهام أنهم لما أحوجوهم للقتال استحقوا الحيف عليهم.

أي: قد يقول القائد أو الإمام الذي قاتل الباغية حتى استسلمت للصلح: إنه اضطر إلى قتال هذه الفئة التي لم تنصت لنداء النصيحة والإصلاح بالمعروف، فماداموا قاتلونا، فهم يستحقون أن نجور عليهم، وأن ننتقم منهم، فأكد الشرع الشريف على وجوب لزوم العدل حتى وإن حصل منهم قتال؛ فلذلك قال: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، وقدم أولاً: (فأصلحوا بينهما) بدون ذكر العدل؛ لأن ذلك قبل مقاتلة الباغية فليس الأمر مستدعياً للحيف.

قول الله تبارك وتعالى: (وأقسطوا) من أقسط الرباعي، وهمزته للسلب، يعني: مثل بعض الأفعال في اللغة الإنجليزية عندما تنفيها تقدم عليها حرفاً في الأول مثل حرف [ صلى الله عليه وسلم] فكذلك الهمزة هنا جاءت للسلب كما بينا ذلك من قبل، يقال: أقسط إذا أزال القسط الذي هو الجور، كما تقول: شكوته فلم يشكني، أي: فلم يجب شكواي، وشكى إلي فأشكيته، يعني: أزلت شكواه، فهذه الهمزة هي لسلب القسط الذي هو الجور، فالمقصود (وَأَقْسِطُوا) أي: أزيلوا الجور واعدلوا، بخلاف (قسط) الثلاثي فمعناه: جار، قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15]، وهذا هو المشهور خلافاً للزجاج، في جعلهما سواء؛ أفاده الكرخي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015