فإن قيل: إن كثيراً ممن لا تحقيق عندهم يزعمون أن عيسى قد توفي، ويعتقدون مثل ما يعتقده ضلال اليهود والنصارى، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]، وقوله تعالى على لسان المسيح: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة:117].
وهذا السياق للأسف الشديد أورده الشيخ محمد رشيد رضا وهو شيء مؤلم حقيقة وددنا لو لم يقع في مثل هذه الزلات! ف
صلى الله عليه وسلم أنه لا دلالة في إحدى الآيتين البتة على أن عيسى قد توفي فعلاً، أما قوله تعالى: (إني متوفيك) فإن دلالته المزعومة على ذلك منفية من أربعة أوجه: الأول: أن قوله: (متوفيك) حقيقة لغوية في أخذ الشيء كاملاً غير ناقص، والعرب تقول: توفى فلان دينه يتوفاه فهو متوف له، إذا قبضه وحازه إليه كاملاً من غير نقص.
فمعنى: (إني متوفيك) في الوضع اللغوي أي حائزك إلي كاملاً بروحك وجسمك، وعيسى عليه السلام رفع بجسده وروحه، ولو سلمنا جدلاً أن قوله: (إني متوفيك) معناها: إني مميتك، فلا إشكال فيها فإننا نؤمن بأن الله سوف يميت المسيح يوماً من الأيام بعد ما ينزل، كل ما في الأمر أنه لم يحدد متى سيتوفاه، فلم يقل مثلاً: إني متوفيك قبل رفعك إلى السماء، وإنما قال: (إني متوفيك)، فهذا لا يدل على تعيين الوقت، ولا يدل على كونه مضى، وهو متوفيه قطعاً يوماً ما.
وبعض الناس قد يقول: ألم يقل الله: (إني متوفيك ورافعك إلي) فربط التوفي بالرفع على أساس أن العطف يقتضي التتابع أو الترتيب؟! فنقول: لا دليل في ذلك؛ لإطباق جمهور أهل اللسان العرب على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع، وإنما تقتضي مطلق التشريك، وقد ادعى السيرافي والسهيلي إجماع النحاة على ذلك، وعزاه الأكثر للمحققين وهو الحق، خلافاً لـ قطرب والفراء وثعلب وأبو عمرو الجاحظ وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه، وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء وقال: لم أجده في كتابه، وقال ولي الدين: أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي.
وخلاصة الكلام أن الواو تقتضي مطلق التشريك، تقول: جاء محمد وعلي وحسن، فالعطف هنا يقتضي أنهم كلهم اشتركوا في المجيء، لكن لا يفيد أن مجيئهم كان مرتباً، بخلاف ما إذا قلت: جاء علي ثم محمد ثم حسن، فإن (ثم) تقتضي الترتيب.
وقد استدل القائلون بالترتيب بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أبدأ بما بدأ الله به ((إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ)))، ولكن لا يدل ذلك على اقتضائها الترتيب، وإنما تدل على الاهتمام بالشيء المقدم، فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالمذكور الأول، كقوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158]، وأحياناً يكون المعطوف بها مرتباً، كما قال حسان: هجوت محمداً وأجبت عنه وعند الله في ذلك الجزاء على رواية الواو، لأن هناك رواية أخرى: هجوت محمداً فأجبت عنه وقد يراد بالواو المعية، كما في قوله: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت:15]، يعني مع أصحاب السفينة، وقوله: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة:9]، يعني مع القمر، لكن لا تحمل الواو على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل يدل على ذلك.
فهذا هو الوجه الأول في الجواب.
الوجه الثاني: أن معنى (إني متوفيك) أي: منيمك، (ورافعك إلي)، أي في تلك النومة.
كأنه ألقي عليه النوم ثم رفعه الله سبحانه وتعالى إليه، وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام:60]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] وعزا ابن كثير هذا القول للأكثرين، واستدل بالآيتين المذكورتين.
الوجه الثالث: أن (متوفيك)، اسم فاعل توفاه، إذا قبضه وحازه إليه، ومنه قولهم: توفى فلان دينه إذا قبضه إليه، فيكون معنى (متوفيك) على هذا: قابضك منهم إلي حياً، وهذا اختيار شيخ المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى.
ثم أعاد التنبيه في بيان أن (متوفيك) حقيقة لغوية في أخذه بروحه وجسمه كاملاً من غير نقصان، فالمعنى أنه توفاه بالروح والجسد، في حين أن معنى: إني مميتك فيها التوفي بالروح فقط وليس الجسد، فيكون قوله: (إني متوفيك) دالاً على نقيض ما يستدلون له.
الدليل الثاني: أن (متوفيك) وصف محتمل للحال والاستقبال والماضي، ولا دليل في الآية على أن ذلك التوفي قد وقع ومضى، بل السنة المتواترة والقرآن دالان على خلاف ذلك، أي على أن ذلك في المستقبل بعدما ينزل إلى الأرض.
الثالث: أنه توفي نوم، وقد ذكرنا الآيات الدالة على أن الوفاة تطلق على النوم.
أما قوله تعالى: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة:117]، فدلالته على أن عيسى مات، ودلالة هذا القول على أن عيسى مات منفية من وجهين: الأول منهما: أن عيسى عليه السلام يقول ذلك يوم القيامة، ولا شك أنه يموت قبل يوم القيامة،، فإخباره يوم القيامة بموته لا يدل على أنه الآن قد مات كما لا يخفى.
والثاني منهما: أن ظاهر الآية أنه توفي رفع وقبض للروح والجسد لا توفي موت.
وإيضاح ذلك أن مقابلته لذلك التوفي بالديمومة فيهم في قوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة:117]، تدل على ذلك؛ لأنه لو كان التوفي هنا توفي موت لقال: وكنت عليهم شهيداً ما دمت حياً فلما توفيتني؛ كما قال: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم:31]؛ لأن الذي يقابل بالموت هو الحياة، أما التوفي الذي يقابل بالديمومة فيهم والبقاء فيهم فالظاهر أنه توفي انتقال عنهم إلى موضع آخر، وهو الرفع إلى السماء، فيكون المعنى: (وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني) أي: نقلتني من الأرض إلى السماء، ولم أعد دائماً فيهم.
وأما الوجه الرابع من الأوجه المذكورة سابقاً: أن الذين زعموا أن عيسى قد مات، قالوا: إنه لا سبب لذلك الموت، إلا أن اليهود قتلوه وصلبوه، فإذا تحقق نفي هذا السبب وقطعهم أنه لم يمت بسبب غيره، تحققنا أنه لم يمت أصلاً، وذلك السبب الذي زعموه منفي يقيناً بلا شك؛ لأن الله جل وعلا قال: ((وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ))، وقال تعالى: ((وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)).
فإذا أتى اليقين من الله سبحانه وتعالى بنفي موت المسيح عليه السلام بالقتل ونفي موته بالصلب لم يبق إلا أنه رفعه إليه، ومن ادعى أن المسيح مات لم يدع إلا بسبب من هذين السببين إما القتل وإما الصلب، فإذا نفى الله قطعاً كلا السببين لم يبق إلا أنه باق على الحياة، قال تعالى: ((وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ))، وقال أيضاً: ((وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ))، وانظر إلى الإضراب والانتقال من الضد إلى الضد، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:158]، وفيها إشارة إلى معنى العزة والقهر والغلبة، وأن الله ينفذ إرادته ضد إرادة من أراد قتل المسيح عليه السلام أو صلبه.
وضمير (رفعه) في قوله: (بل رفعه الله إليه) ظاهر في رفع الروح والجسم معاً.
وقد بين الله جل وعلا مستند اليهود في اعتقادهم أنهم قتلوه بأن الله ألقى شبهه على إنسان آخر، فصار من يراه يعتقد اعتقاداً جازماً أنه عيسى عليه السلام، وهذا هو السبب في أنهم أنفسهم يقولون: ((إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ))، فهم رأوا صورة المسيح على شخص آخر، فرآه اليهود لما أجمعوا على قتل عيسى فاعتقدوا لأجل ذلك الشبه الذي ألقي على هذا الشخص اعتقاداً جازماً أنه عيسى فقتلوه، فهم يعتقدون صدقهم في أنهم قتلوه وأنهم صلبوه، ولكن العليم اللطيف الخبير أوحى إلى نبيه في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، فمحمد صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوه عندهم علم من الله بأمر عيسى لم يكن عند اليهود ولا النصارى، كما أوضحه تعالى بقوله: ((وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)).
والحاصل أن القرآن العظيم على التفسير الصحيح والسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلاهما دال على أن عيسى حي، وأنه سينزل في آخر الزمان، وأن نزوله من علامات الساعة، وأن معتمد الذين زعموا أنهم قتلوه ومن تبعهم هو إلقاء شبهه على غيره، واعتقادهم الكاذب أن ذلك المقتول الذي شبه بعيسى هو عيسى، وقد عرفت دلالة الوحي على بطلان ذلك، وأن قوله: (متوفيك) لا يدل على موته فعلاً، وقد رأيت توجيه ذلك من أربعة أوجه.