قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الزخرف:63].
((تَخْتَلِفُونَ فِيهِ)) أي: من أحكام التوراة وغيرها، كاختلاف اليهود في القيامة لعدم صراحتها في كتبهم، وقد جاء في نحوها آية: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]، وقد وضع عيسى عن اليهود شيئاً من إصر التوراة وأغلال الناموس كما فعل في يوم السبت.
قال بعض المحققين: وإنما لم يقل: لأبين لكم كل ما تختلفون فيه، بل قال: ((وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ))، لأنه لم يفعل ذلك، بل ترك بيان كثير من الأشياء كالفساد الذي دخل في أغلب كتبهم تركه للفارقليد، أي: لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي يأتي بعده، وجاء في آخر طبعات الأناجيل في قصة نهاية مواقف المسيح عليه السلام أنه قال لمن حوله من الحواريين: إنني ينبغي أن أنصرف عنكم الآن؛ لأني إن لم أنصرف لا يأتيكم الفارقليد روح الحق الذي هو من عند الله سبحانه وتعالى، يأتيكم ويخبركم بكل ما كنت أريد أن أقوله لكم، وإنه ينطق بالحق على فمه، ولا بد أن أمضي الآن، حتى يأتيكم الفارقليد.
والذي سوف يدين العالم ويفعل كذا وكذا.
فتكرر استعمال لفظ الفارقليد أو الفارقليتوس باللغة اليونانية القديمة، وقد كان صاحب كتاب صصد الأنبياء على معرفة بأستاذ اسمه كارلون لينو وهو إيطالي متخصص ومتعمق جداً في اللغة اليونانية القديمة، فقال له: ما معنى كلمة الفارقليد فقال له: إن القسس يزعمون أن معناها المعزي أو المخلص أو المحامي إلى آخر كلامهم، فقال له: أنا لا أسأل القسس أو القساوسة، ولكني أسأل الدكتور كارلون لينو الحاصل على الدكتوراة في آداب اللغة اليونانية القديمة، فقال: إنها تعني الشخص الذي في اسمه حمد كثير، قلت له: هل يعني ذلك صيغة أفعل التفضيل من حمد أو أحمد، قال: نعم، قال: كذلك اسم نبينا محمد {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]، قال: يا أخي إنك تقرأ كثيراً وسكت اكتفاء بهذا التعليق! وهناك بحوث كثيرة جداً وخاصة من علماء النصارى الذين يدخلون في الإسلام عن علم وعن خبرة وبحوث في غاية العمق، خاصة عبد الأحد داود الذي كان من أكبر قساوسة الطائفة الكلدانية في العراق، ثم أسلم، وله كتب في غاية القوة، ولهم بحوث مستفيضة في ذلك، الذين قاموا بالترجمة من اللغة العبرانية التي تكلم بها المسيح عليه السلام على هذه الكلمة (الفارقليد) لم يحافظوا على اللفظ، بل ترجموا الكلمة بمعناها، مع أن المفروض أن الأعلام لا تغير، فالذي اسمه كريم يظل اسمه في كل العالم (كريماً)، وتكتب حتى بالإنجليزي ( Kصلى الله عليه وسلمRصلى الله عليه وسلمصلى الله عليه وسلمM) مثلاً، لكن الذي حصل أنهم لما ترجموا أحمد ترجموها بالمعنى، مثل أن تحول كريم إلى: جنرس!! فحولتها لمعنى اللغة التي ترجمتها، فهذا الذي فعلوه بكلمة أحمد، حيث ترجمت على أنها صيغة أفعل التفضيل من المدح، والشخص الذي في اسمه حمد ومدح وثناء كثير هو محمد أو أحمد.
فهذا هو السبب في أن هذه الكلمة الفارقليد التي تعني أن هذا الاسم شخص في اسمه حمد كثير، على وزن أفعل التفضيل من حمد، يعني: أحمد بالضبط، فالذي حصل أنهم تناقلوه، لما كثر استدلال المسلمين بهذه الآية، وكثر دخول النصارى في الإسلام بسبب ورود نص في الإنجيل على الفارقليد وأن المسيح مضى كي يأتي الفارقليد، وأنه سوف يغير كل شيء، وأنه ينطق بالحكمة ويعلمهم كل ما يحتاجونه، وأنه هو الذي سيدين هذا العالم وغير ذلك من صفات النبي عليه السلام؛ عندها بدءوا مهنة التحريف، فبدأوا يتجنبون في الطبعات الأخيرة من الأناجيل كلمة الفارقليد ويقولون: المعزي أو المخلص كي يهربوا من ذلك، لكن الأناجيل القديمة كلها كانت تستعمل الفارقليد.
فقوله: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [الزخرف:63]، إنما قال: (بعض) لأنه ترك مهمة تبيين كل ما يختلفون فيه إلى من سيأتي بعده، وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي أتى بكتاب يهيمن على كل الكتب السابقة، وذلك لعدم استعداد الناس في زمانه لقبول كل شيء منه، كما قال هو عن نفسه في إنجيل يوحنا في الإصحاح السادس عشر: وخصوصاً إذا تعرض للطعن في كتبهم، وهي رأس مالهم الوحيد، وتراث أجدادهم، ولو أنه كشف لهم التزييف الذي زيفوه لشك فيه الكثيرون منهم وكذبوه، ولما اتبعه إلا الأقلون أو النادرون.
وأما قول الله تعالى على لسانه: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} [آل عمران:50]، فالمراد بمثل هذا التعبير أنه بمجيئه عليه السلام تحققت نبوات التوراة عنه، وبه صحت وصدقت، يعني: أن المسيح أخبرت به التوراة، فمجيئه بعد ذلك مما يصدق أن التوراة من عند الله، وكلمة التوراة تطلق على كتب العهد القديم، فالمعنى أن النبي عيسى كان وفق ما أنبأ به النبيون عنه من قبل، ولولاه لما صدقت تلك النبوات فإنها لا تنطبق إلا عليه، وليس المراد أن عيسى يقر كل ما في التوراة كما يتوهم النصارى الآن من مثل هذه الآية، وإلا لما قال بعدها مباشرة: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]، فكيف يقرها وهو قد جاء ناسخاً لبعض ما فيها؟! فتدبر ذلك ولا تكن كهؤلاء الذين يهرفون بما لا يعرفون، والمفسرون ما لا يفهمون.
انتهى كلامه، وهو وجيه جداً.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [الزخرف:64].
قال ابن جرير: أي إن الله الذي يستوجب علينا إفراده بالألوهية وإخلاص الطاعة له عز وجل هو ربي وربكم جميعاً، فاعبدوه وحده لا تشركوا معه في عبادته شيئاً.
((هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)) أي: هذا الذي أمرتكم به من اتقاء الله وطاعته، وإفراده بالألوهية هو الطريق القويم، وإذا كان هذا قول عيسى عليه السلام فلا عبرة بقول الملحدين فيه والمفترين عليه ما لم يقله، ثم أشار إلى وعيد من خالف الحق بعد وضوحه.