فقوله هنا: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159] أي: ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك صريح في أن عيسى حي وقت نزول آية النساء هذه، وأنه لا يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب، ومعلوم أنهم لا يؤمنون به إلا بعد نزوله إلى الأرض.
فإن قيل: قد ذهبت جماعة من المفسرين من الصحابة فمن بعدهم إلى أن الضمير في قوله: ((وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)) راجع إلى الكتابي، أي: إلا ليؤمنن به الكتابي قبل موت الكتابي، يعني: يقولون إن عيسى يمثل له عند موته، فيراه ويؤمن عند احتضاره وخروج روحه أنه عبد ورسول وليس رباً.
ف
صلى الله عليه وسلم أن كون الضمير راجعاً إلى عيسى يجب المصير إليه دون القول الآخر؛ لأنه أرجح منه من أربعة أوجه: الأول: أنه هو ظاهر القرآن المتبادر من السياق، وعليه تنسجم الضمائر بعضها مع بعض، أما القول الآخر فبخلاف ذلك.
وإيضاح هذا: أن الله سبحانه تعالى قال: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} [النساء:157]، ثم قال تعالى: ((وَمَا قَتَلُوهُ))، أي: عيسى، ((وَمَا صَلَبُوهُ)) أي: صلبوا عيسى، ((وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ))، والذي شبه لهم هو عيسى عليه السلام، ((وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ)) أي: في عيسى، ((لَفِي شَكٍّ مِنْهُ)) أي: عيسى، ((مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ))، أي: عيسى، ((وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا)) أي: عيسى، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] أي: عيسى، {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء:159] أي: عيسى ((قَبْلَ مَوْتِهِ)) أي: عيسى، ((وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا)) أي: يكون عيسى عليهم شهيداً.
فهذا السياق القرآني الذي ترى ظاهر ظهوراً لا ينبغي العدول عنه في أن الضمير في قوله: (قبل موته) راجع إلى عيسى.
هذا هو الوجه الأول الذي يترجح به عود الضمير إلى عيسى عليه السلام.
الوجه الثاني من مرجحات هذا القول: أنه على هذا القول الصحيح، فمفسر الضمير ملفوظ مصرح به في قوله تعالى: ((وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ)).
وأما على القول الآخر فمفسر الضمير ليس مذكوراً في الآية أصلاً، بل هو مقدر تقديره: (ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به قبل موته)، أي: موت أحد أهل الكتاب المقدر.
أي: فعلى القول بأن الضمير في قوله: (موته) راجع إلى الكتابي، لا يجود ما يفسر الضمير في الآية، فيحتاج إلى تقديره بما ذكر، وهو تكلف، ولا شك أن التفسير الذي لا يحتاج إلى تقدير أرجح وأولى مما يحتاج إلى تقدير؛ فإذا فسرناه: ((وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)) أي: قبل موت المسيح ما احتجنا إلى أي تقدير؛ لأن كل الضمائر كما ذكرنا سياقها في شأن المسيح عليه السلام، أما على القول الآخر فلا بد من تقدير.
الوجه الثالث من مرجحات هذا القول الصحيح: أنه تشهد له السنة النبوية المتواترة؛ فلقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن المسيح عيسى عليه السلام حي الآن، وأنه سينزل في آخر الزمان حكماً مقسطاً، ولا ينكر تواتر السنة بذلك إلا مكابر.
وللأسف الشديد أنه تورط بعض من له فضل على مذهب السلفية في مصر، وهو الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى وعفا عنه، حيث تابع شيخه الشيخ محمد عبده في هذه الضلالة، وهي إنكار نزول المسيح عيسى عليه السلام آخر الزمان! رغم خدمات الشيخ رضا للمنهج السلفي، وأنه ممن أحيوا هذا المنهج هنا في مصر، ومع ذلك كان في متابعاته لـ محمد عبده ما نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنه فيه، أو عنهما جميعاً، فهذا مما ضل فيه وزل الشيخ رشيد رضا رحمه الله تعالى، والعلماء ردوا عليه في عدة كتب.
قال ابن كثير بعدما نصر هذا القول: هذا القول هو الحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع إن شاء الله تعالى اهـ.
ويعني بالدليل القاطع: الأحاديث المتواترة تواتراً معنوياً؛ لأن الروايات كثيرة جداً؛ لكن القدر المجمع المتفق عليه هو إثبات نزول المسيح عليه السلام، وليس مثلاً كحديث: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)؛ لأن التواتر هنا تواتر لفظي.
يقول الشنقيطي معلقاً على قول ابن كثير: هذا القول هو الحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع إن شاء الله تعالى اهـ.
يقول: وقوله: بالدليل القاطع، يعني السنة المتواترة؛ لأنها قطعية، وهو صادق في ذلك، وقال ابن كثير في تفسير آية الزخرف ما نصه: وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماماً عادلاً وحكماً مقسطاً، وأما القول بأن الضمير في قوله (قبل موته) راجع إلى أهل الكتاب فهو خلاف ظاهر القرآن، ولم يقم عليه دليل لا من كتاب ولا سنة.
الوجه الرابع: هو أن القول الأول الصحيح واضح لا إشكال فيه، ولا يحتاج إلى تأويل ولا تخصيص بخلاف القول الآخر، فهو مشكل لا يكاد يصدق إلا مع تخصيص، والتأويلات التي يروونها فيه عن ابن عباس وغيره، ظاهرة البعد والسقوط؛ لأنه على القول بأن الضمير في قوله (قبل موته) راجع إلى عيسى فلا إشكال ولا خفاء، ولا حاجة إلى تأويل، ولا إلى تخصيص.
أما على القول بأنه راجع إلى الكتابي فإنه مشكل جداً بالنسبة لكل من فاجأه الموت من أهل الكتاب! يعني: لا يمكن الأخذ بهذا القول الثاني إلا بتأويل أو تخصيص؛ لأنه من الممكن أن يأتي الموت لأي رجل كتابي فجأة، فلا يمكنه أن يرى عيسى ولا غيره، كمثل من سقط من مكان عال إلى أسفل، أو من قطع رأسه بالسيف فجأة وهو غافل، أو من مات وهو نائم ونحو ذلك، فلا يصدق هذا العموم المذكور في الآية على هذا النوع من أهل الكتاب إلا إذا ادعى إخراجهم منه بمخصص.
فيقال: كل أهل الكتاب ما من منهم أحد حينما يموت إلا ويؤمن بالمسيح قبل موته إلا من سقط من أعلى إلى أسفل، وإلا من صدمته سيارة فمات فجأة، وإلا من مات وهو نائم، وإلا من قطع رأسه بالسيف وهو غافل، وإلا من كذا وكذا ممن لن يستطيعوا أن يروا المسيح قبل الموت ويؤمنوا به.
وهذا التخصيص ليس عليه دليل.
ولا سبيل إلى تخصيص عمومات القرآن، إلا بدليل يجب الرجوع إليه من المخصصات المتصلة أو المنفصلة.
وبهذا كله تعلم أن الضمير في قوله (قبل موته)، راجع إلى عيسى، وأن تلك الآية من سورة النساء تبين قوله تعالى هنا: (وإنه لعلم للساعة)، كما ذكرنا.