تفسير قوله تعالى: (أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم)

{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} [يونس:2].

هذا تعجب من تعجبهم، ولذلك هذا الاستفهام تعجبي ((أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا)).

((أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ)) هل هذا شيء يستحق أن يتعجبوا منه، بل هذا منهم أعجب! ((وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) الهمزة لإنكار تعجبهم، وللتعجيب من هذا الإنكار، وإنما أنكر ذلك لكون سنة الله جاريةً على هذا الأسلوب في الإيحاء إلى الرجال، كما قال عز وجل في الآية الأخرى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] أي: لست أول رسول من البشر يرسل إليه من عند الله سبحانه وتعالى، وإنما هذه سنة الله سبحانه وتعالى، وقوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7].

وإنما كان تعجبهم لبعدهم عن مقامه، وعدم مناسبة حالهم لحاله ومنافاة ما جاء به لما اعتقدوه.

((وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) (قدم صدق) أي: السبق باعتبار أن القدم هي آلة السبق.

فليس المقصود بالقدم هنا القدم الجارحة، وإنما المقصود السبق؛ لأن السبق لا يكون إلا عن طريق الأقدام، كما يطلقون اليد على النعمة، يقال: فلان له عندي أيادٍ كثيرة، أو: لولا يد لك عندي لم أجزك بها لرددت عليك، كما قال ­المشرك لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنه في صلح الحديبية، وذلك لأن الإحسان غالباً ما يكون باليد، وكما تطلق العين على الجاسوس؛ لأنه يستعمل عينه للتجسس، كذلك الرأس تطلق على الرئيس.

ثم إن السبق مجاز عن الفضل والتقدم المعنوي إلى المنازل الرفيعة، هذا هو الاحتمال الأول.

وقيل: القدم بمعنى المقام كقوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55].

بإطلاق الحال، وإرادة المحل، وإضافته إلى الصدق من إضافة الموصوف إلى الصفة فقال: (قدم صدق).

وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق، وتنبيه على أنهم إنما نالوا ما نالوا بصدقهم ظاهراً وباطناً.

((قَالَ الْكَافِرُونَ)) أي: هؤلاء المتعجبون ((إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ)) كما هي قراءة حفص عن عاصم، على أن الإشارة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أما إذا قرأناها (إن هذا لسحر مبين) أي: أن هذا القرآن سحر مبين.

وهذا دليل عجزهم وأنهم كانوا كاذبين في تسميته سحراً؛ وذلك لأن التعجب أولاً، ثم التكلم بما هو معلوم الانتفاء قطعاً حتى عند المعارض، هو دأب العاجز؛ لأنه ليس عنده أي حجة يواجه بها هذا الحق، فهو يتعجب!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015