قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ} [الجن:1] الخطاب لسيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، قل للناس جميعاً: {أُوحِيَ إِلَيَّ} [الجن:1] عن طريق الوحي جبريل عليه السلام {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1]، قال العلماء: رآهم النبي صلى الله عليه وسلم في واقعة وهم يستمعون، وفي واقعة لم يرهم، وفي هذه السورة لم يرهم بدليل أنه علم عن طريق الوحي، لكن رآهم في واقعة أخرى، ففي حديث ابن مسعود عند مسلم (لما انطلق النبي عليه الصلاة والسلام، وقام الصحابة يلتمسونه، فما وجدوه، حتى إذا عاد أخبرهم أن داعي الجن أتاه فذهب معه إلى القوم، فتلا عليهم القرآن، ثم يقول ابن مسعود: فأخذنا وأرانا آثار نيرانهم وآثار مكانهم)، هذا الحديث دليل على أنهم استمعوا إليه وهو يعلم، لكن في هذا الموضع في سورة الجن لم يعلم أنهم يستمعون إليه، وكان ذلك في صلاة الفجر وهو يصلي بأصحابه.
وسبب النزول كما أورده المفسرون: أنه لما بعث النبي عليه الصلاة والسلام حرست السماء حراسة شديدة بالشهب: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا} [الجن:8] من الملائكة، {وَشُهُبًا} [الجن:8] ترصدهم، فلما كانت الجن تسترق السمع قبل بعثة سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم وجدت تغيراً في أمر السماء، إما أن عذاباً قد اقترب على أهل الأرض، وإما أن يكون هناك نبي قد بعث حتى قالت الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10]، أي: لما رأوا السماء محصنة بهذه الطريقة قالوا: لا ندري لعل هذا عذاب لأهل الأرض، ولعل هذا نبي بعثه الله لأهل الأرض.
فلما نزلوا إلى الأرض وأخبر بعضهم بعضاً، قال بعضهم لبعض: انطلقوا في ربوع الأرض فانظروا ماذا حدث؟ فانطلقوا يميناً ويساراً، وشرقاً وغرباً، فأتوا إلى سوق عكاظ، فوجدوا النبي عليه الصلاة والسلام يصلي بأصحابه صلاة الفجر؛ فعلموا أن ذلك هو السر، فوقفوا يستمعون القرآن من فم سيد البشر محمد وهو يرتل ويقرأ: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ} [الجن:1]، وفرق بين السماع والاستماع، فالاستماع: أن يقبل بأذنه وجوارحه إصغاء إلى كتاب ربنا سبحانه.
وقال: {نَفَرٌ} [الجن:1] أي: من الثلاثة إلى العشرة {فَقَالُوا} [الجن:1] لقومهم، كما هو واضح في سورة الأحقاف: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ} [الأحقاف:29]، فالجن يبلغون أقوامهم: {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30].
وقال تعالى هنا مخبراً عنهم: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1] أي: عجيباً في فصاحته، عجيباً في بلاغته، عجيباً في قصصه.
هذه شهادة الجن، والله تعالى أرسل النبي محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الجن والإنس: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، فهو مبعوث إلى الثقلين عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: (سَمِعْنَا قُرْآنًا): باعتبار أنه مقروء، وفي سورة الأحقاف قال: (كِتَابًا): باعتبار أنه مكتوب، يقول الدكتور دراز في كتابه القيم (النبأ العظيم): سمي القرآن قرآناً باعتبار أنه يقرأ، وسمي كتاباً باعتباره مكتوباً في المصاحف، وذلك لحكمة عظيمة.
فالذي حفظ القرآن هو الله، فكلما قرأناه حفظناه في الصدور، فإن زال من الصدور فهو ما زال في السطور، ولعلك تلاحظ هذا في قديم الزمان، فقد كان عدد الحفظة كثيراً وكانت المصاحف قليلة، أما الآن فطبعات متعددة على سيديهات وغيرها؛ لأنه خف في الصدور وصار في وسائل الحفظ الأخرى؛ لأن الذي تكفل بحفظه هو الله، حينما قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، أما الكتب السابقة للقرآن تعهد بحفظها الأحبار والرهبان، فهل حفظوها؟ أبداً، حرفوا وبدلوا وغيروا، فقال الله في حقهم: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة:79] لماذا؟ {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79].