الحمد لله رب العالمين، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ.
وأشهد أن لا إله إلا الله، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، يغني فقيراً، ويفقر غنياً، ويعز ذليلاً، ويذل عزيزاً، ويملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته، وهو مستو على عرشه، بائن من خلقه، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف شاء وحسبما أراد، فاللهم يا مثبت القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، وأشهد أن نبينا ورسولنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الإخوة الكرام الأحباب! لقاؤنا اليوم مع سورة الجن! إن من صفات عباد الله المتقين كما وصفهم رب العالمين، أنهم يؤمنون بالغيب، والغيب: هو كل ما غاب عن حواسنا وعن إدراكنا، لكن أخبرنا الله به، أو أخبرنا به النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فنحن نؤمن بالغيب إذا ورد في كتاب ربنا أو في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فالجنة غيب، والنار غيب، وعذاب القبر غيب، والملائكة غيب، وحوض النبي محمد صلى الله عليه وسلم غيب، والجن أيضاً غيب؛ لأن الله قال في حقهم: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، فالجن يروننا ونحن لا نراهم، لكن هل معنى أننا لا نراهم لا نؤمن بهم؟ هذه السورة تسمى بسورة الجن، فضلاً عن الآيات التي جاء فيها ذكر اسم الجن، وكذلك الأحاديث، يقول ربنا سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
إذاً: كما خلق الله الإنس خلق الجن، وربنا يقول: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر:27]، فالجن مخلوق بلا شك، وموجود بلا أدنى شك، ومنهم المسلم ومنهم الكافر: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:14 - 15].
يقول أستاذنا المطعني: العلمانية -بكسر العين- نسبة إلى العلم الملموس المادي، لا تؤمن إلا بما تحس؛ فإن وجد في إحساسها آمنت به، وإن غاب عن إدراكها كفرت به، فالعلمانية لها وجه قبيح، والأعداء الآن يطلبون من بلاد المسلمين أن تتعلمن، وأن تتقيد بأنظمة العلمانية، فما معنى العلمانية؟ العلمانية لها تصور في العقيدة، ولها تصور في الشريعة: أما تصورها في الاعتقاد: الإيمان بكل محسوس، فما دام أنني لا أحس لا أؤمن، وعدم الإيمان بالغيبيات أحد ركائز العلمانية.
أما في مجال الشريعة: ففصل الدين عن الدولة، والمقصود بالدين: من مساجد، زكاة، صيام، حج، عبادات، أما أنظمة الناس فلا دخل للدين بها: من التقاضي، والخصومات، وزواج، وطلاق، ومواريث وغيرها، كلها تخضع لأنظمة وضعية، وهذا معنى فصل الدين عن الدولة.
هذه العلمانية في أبسط صورها، وهي بدعة أوروبية مستوردة إلى بلاد المسلمين، انفصام بين الدين والحياة في مجال الشريعة؛ لذلك لا تعجب إن قرأت لأحدهم: الجن خرافة، الجن أكذوبة، ليس هناك أمة تسمى بالجن، فإن سألته: لماذا؟ يقول: لأننا لم نر، فهو لا يؤمن إلا بما يرى، وبما أنه لا يرى فإنه لا يؤمن، لكن نحن معاشر المسلمين إيماننا عميق ثابت؛ لأن الإيمان بالجن من ركائز الإيمان بالغيب.
أقول: من أخطر القضايا في عصرنا الحاضر قضية الجن، وتحتاج إلى وقفة؛ لأن البعض باسم الجن يرتكب المحرمات، وباسم الجن يتكسب الأموال الباهظة من المغفلين والسفهاء، إذا تأخر سن زواج البنت هذا جن، وإذا أصيب بصداع هذا جن، وإذا تعثر في تجارة هذا جن، وللأسف يجد من يساعده في هذا الباب، هناك جن بدون أدنى شك، فيقول الساحر: أصبت بسحر، يقول: كيف يا شيخ؟! وكيف أعالجه؟ يقول: تحتاج إلى أعشاب، وإلى زجاجة مسك دم الغزال، هل هناك مسك يسمى دم الغزال؟! أنا أول مرة أعرف مسكاً بهذا الاسم، يقول: والزجاجة بخمسين جنيهاً، ولا توجد إلا معي أنا، الله أكبر! تفضل، ثم تدخل عليه أنثى تشكو من تأخر سن الزواج، فيقول: أنت مصابة بسحر تعطيل، وأنت تريدين العريس، فتقول: كيف يا شيخ! أواجه هذا؟ يقول: بعدد من الجلسات، لكن الجلسة ستكلفك قدراً ضئيلاً من المال، مائة جنيه فقط، فتقول: خذ مائتين لكن أنجز، وكما يقول المثل: (طول ما المغفل موجود النصاب بخير