إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، بيده الخير وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه، وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.
ثم أما بعد: فيا أيها الإخوة الكرام الأحباب! نواصل الحديث مع سورة المزمل، ولقد توقفنا عند قول الله سبحانه: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا * وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا * إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا * إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا * فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا * إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل:7 - 19].
{إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:7]، قال المفسرون: (سَبْحًا) بمعنى: شغلاً، في النهار انطلق إلى أعمالك الدنيوية وحصلها، انطلق إلى معاشك وإلى شئون حياتك، في هذه الفترة النهارية القلب ينشغل قليلاً بالأعمال التي ينشغل بها المرء، {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ} [المزمل:7] أي: فراغاً طويلاً خذه، ثم بعد أن تنتهي من شئون حياتك، تفرغ لعبادة ربك، ولذلك يقول ربنا: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7] والمعنى: إذا فرغت من شئون عملك فانصب إلى عبادة الله عز وجل، وعبادة الليل كما قلنا هي أشد مواطأة للقلب من عبادة النهار؛ لأن القلب بالليل ليس هناك ما يشغله، فيقف الإنسان بين يدي ربه وقد انتهى من شئون حياته ومن أعماله.
قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل:8]، يقول الحافظ ابن كثير: أكثر من ذكر ربك، فالذكر يعين العبد على أداء رسالته الدعوية وعلى أعماله الدنيوية، والذكر يعطيك قوة في بدنك، وقوة في قلبك، وقوة على مجابهة عدوك، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله كمثل الحي والميت)، فالذي يغفل عن ذكر ربه ميت وإن كان بين الأحياء، وكما قال العلماء: كم من ميت بين الأحياء، وكم من حي بين الأموات، إنسان يأكل، ويشرب، ويعمل، ويتزوج، وينجب، لكنه في واقع الأمر ميت، لابتعاده عن ذكر ربه وعن طاعة ربه: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
ولذلك كان وقود النار الناس والحجارة، ولعلك تسأل نفسك: الناس عقلاء، والحجارة جماد، فلماذا جمع الله بين الناس والحجارة في قوله تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] ما علاقة الناس بالحجارة؟
و صلى الله عليه وسلم أنهم ليسوا أناساً، وإنما هم في واقع الأمر حجارة، فقد تجمدت عيونهم عن البكاء من خشية الله فهي كالحجارة: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74]، أي: بل أشد قسوة، هناك أناس كالحجارة ليس فيهم لين، ولا عطف، ولا رحمة، قلوب متحجرة قاسية، بل هي أقسى من الحجارة، فحق لهم أن يكونوا وقوداً للنار مع الحجارة، لذلك أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بذكره، فقال: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} [المزمل:8]، وينبغي أن تعلم أن الفرق بين المنافق والمؤمن ليس مجرد الذكر، بل هو الذكر الكثير؛ لأن المنافق يذكر الله، ولكن كما قال