يقول الله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا} [المزمل:6] أي: قيام الليل أشد موافقة لنفسك وللسانك ولقلبك، فعبادة الليل أفضل من عبادة النهار، فإن الليل تسكن فيه العيون، وتهدأ فيه الأصوات، ويقوم العبد في هدوء الليل وسكونه بين يدي ربه، يقوم طويلاً يناجي ربه ويسبحه، ويسجد ويركع بين يدي ربه عز وجل، وهذه نعمة كما قال عنها بعض السلف: نحن في نعمة لو يعلمها الملوك وأبناء الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف.
إنها نعمة الطاعة، ولذة المناجاة، ولذة السجود والركوع والتسبيح والدعاء.
قال الله في حق عباده المتقين: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].
وقال الله في وصفهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16] خوفاً من ناره، وطمعاً في جنته.
وقوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6] أي: أشد إخلاصاً في العبادة، {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:7] (سبحاً) أي: وقت النهار طويل تستطيع فيه أن تنهي الأعمال، وأن تنام لتتزود لقيام الليل، ولذلك يقول ربنا: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7]، والمعنى: إن فرغت من أعمالك ومن شئونك الدنيوية فانصب إلى عبادة ربك.
فقول الله عز وجل: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:7] في النهار عمل وراحة، فإذا جاء الليل فقل مرحباً بحبيبي الذي أناجي فيه ربي، وأخلو فيه مع نفسي، كان البخاري رحمه الله يقسم الليل إلى ثلاثة أقسام: قسم ينام فيه، وقسم يصلي فيه، وقسم يكتب فيه الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، وجاء في ترجمته: أنه انطفأ السراج يوماً وهو يكتب الحديث في آخر الليل فجلس حزيناً على ضياع الوقت، فأضاء الله له أصابعه نوراً، فكتب عليها حديث رسول الله.
وأنا أعلم أن معترضاً سيقول: كيف ذلك؟ فأقول: كرامات الأولياء ثابتة، فـ عباد بن بشر وأسيد بن حضير كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخرجا في ظلمة الليل بعد العشاء منطلقين إلى بيتيهما، وكان مع كل واحد عصا فلما خرجا في الظلام أضاء الله عصا أحدهما فأضاءت لهما الطريق، فلما أرادا الانفصال أضاءت العصا الأخرى.
فهذا ليل الصالحين، فكيف ليلنا الآن؟ أين تقضى ساعات هذا الليل؟ تقضى في سهرة حمراء إلى طلوع الفجر، نسأل الله العافية، هذا حال الأمة، حتى إنهم حينما يعرضون المسرحية يقولون: إن بها ألف ضحكة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كثرة الضحك تميت القلب)، فهم يدعون إلى موت القلوب، ويتنافسون في إماتة القلوب، إنها حرب بين أهل الحق وأهل الباطل، إنها حرب بين المتقين والمفسدين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11 - 12].
يقول الله عز وجل: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل:8] (تبتل) يعني: انقطع، ولعل معترضاً يقول: النبي صلى الله عليه وسلم نهى عثمان بن مظعون عن التبتل، فكيف يأمره الله بالتبتل؟ والجواب: أن التبتل هنا بخلاف التبتل في الحديث، فالجهة منفكة؛ تبتل ابن مظعون عن الزواج، وعن شئون الدنيا المباحة، أما التبتل في الآية: فهو الانقطاع عن عبادة الأوثان والأصنام إلى عبادة الواحد الديان.
فقوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل:8] أي: اخلص له العبادة وحده لا شريك له؛ لأنه لا يستحق العبادة إلا هو الخالق الرازق، الذي يملك جلب النفع، ودفع الضر، فلا تصرف العبادة إلا له، اجعل العبادات كلها له سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:8 - 9] أي: توكل عليه {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل:10].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.