حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، قَالَ: زَعَمَ السُّدِّيُّ أَنَّ هَذِهِ، الْآيَةَ حِينَ نَزَلَتْ: " {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْ ذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ " إِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَهَلْ يَحُوزُ أَنْ يُؤَاخِذَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَهُ بِمَا نَسُوا أَوْ أَخْطَئُوا فَيَسْأَلُوهُ أَنْ لَا يُؤَاخِذَهُمْ بِذَلِكَ؟ -[156]- قِيلَ: إِنَّ النِّسْيَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى وَجْهِ التَّضَرُّعِ مِنَ الْعَبْدِ وَالتَّفْرِيطِ؛ وَالْآخَرُ: عَلَى وَجْهِ عَجْزِ النَّاسِي عَنْ حِفْظِ مَا اسْتُحْفِظَ، وَوُكِّلَ بِهِ وَضَعُفَ عَقْلُهُ عَنِ احْتِمَالِهِ، فَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ مِنَ الْعَبْدِ عَلَى وَجْهِ التَّضْيِيعِ مِنْهُ وَالتَّفْرِيطِ، فَهُوَ تَرْكٌ مِنْهُ لِمَا أُمِرَ بِفِعْلِهِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَرْغَبُ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي تَرْكِهِ مُؤَاخَذَتَهُ بِهِ، وَهُوَ النِّسْيَانُ الَّذِي عَاقَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] وَهُوَ النِّسْيَانُ الَّذِي قَالَ جَلَّ ثناؤُهُ: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51] فَرَغْبَةُ الْعَبْدِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] فِيمَا كَانَ مِنْ نِسْيَانٍ مِنْهُ لِمَا أُمِرَ بِفِعْلِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي وَصَفْنَا مَا لَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ مَا تَرَكَ مِنْ ذَلِكَ تَفْرِيطًا مِنْهُ فِيهِ وَتَضْيِيعًا، كُفْرًا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ كُفْرًا بِاللَّهِ فَإِنَّ الرَّغْبَةَ إِلَى اللَّهِ فِي تَرْكِهِ الْمُؤَاخَذَةَ بِهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَخْبَرَ عِبَادَهُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمُ الشِّرْكَ بِهِ، فَمَسْأَلَتُهُ فَعْلَ مَا قَدْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ خَطَأً، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَسْأَلَتُهُ الْمَغْفِرَةَ فِيمَا كَانَ مِنْ مِثْلِ نِسْيَانِهِ الْقُرْآنَ بَعْدَ حِفْظِهِ بِتَشَاغُلِهِ عَنْهُ، وَعَنْ قِرَاءَتِهِ وَمَثَلِ نِسْيَانِهِ صَلَاةٌ أَوْ صِيَامًا، بِاشْتِغَالِهِ عَنْهُمَا بِغَيْرِهِمَا حَتَّى ضَيَّعَهُمَا، وَأَمَّا الَّذِي الْعَبْدُ بِهِ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ لَعَجْزِ بِنْيَتِهِ عَنْ حِفْظِهِ، وَقِلَّةِ احْتِمَالِ عَقْلِهِ مَا وُكِّلَ بِمُرَاعَاتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَعْصِيَةٍ، وَهُوَ بِهِ غَيْرُ آثِمٍ، فَذَلِكَ الَّذِي لَا وَجْهَ لِمَسْأَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَسْأَلَةٌ مِنْهُ لَهُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ مَا لَيْسَ لَهُ بِذَنْبٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ الْأَمْرِ يَغْلِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ حَرِيصٌ عَلَى تَذَكُّرِهِ وَحِفْظِهِ، كَالرَّجُلِ يَحْرُصُ عَلَى حِفْظِ -[157]- الْقُرْآنِ بِجِدٍّ مِنْهُ، فَيَقْرَؤُهُ، ثُمَّ يَنْسَاهُ بِغَيْرِ تَشَاغُلٍ مِنْهُ بِغَيْرِهِ عَنْهُ، وَلَكِنْ بِعَجْزِ بِنْيِتَهِ عَنْ حِفْظِهِ وَقِلَّةِ احْتِمَالِ عَقْلِهِ ذَكْرَ مَا أُودِعَ قَلْبَهُ مِنْهُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ النِّسْيَانِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ مَسْأَلَةُ الرَّبِّ مَغْفِرَتَهُ، لِأَنَّهُ لَا ذَنْبَ لِلْعَبْدِ فِيهِ، فَيَغْفِرُ لَهُ بِاكْتِسَابِهِ، وَكَذَلِكَ لِلْخَطَأِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا مِنْ وَجْهِ مَا نُهِيَ عَنْهُ الْعَبْدُ فَيَأْتِيهِ بِقَصْدٍ مِنْهُ وَإِرَادَةٍ، فَذَلِكَ خَطَأٌ مِنْهُ وَهُوَ بِهِ مَأْخُوذٌ، يُقَالُ مِنْهُ: خَطِئَ فُلَانٌ وَأَخْطَأَ فِيمَا أَتَى مِنَ الْفِعْلِ، وَأَثِمَ إِذَا أَتَى مَا يَتَأَثَّمُ فِيهِ وَرَكِبَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

[البحر الكامل]

النَّاسُ يَلْحَوْنَ الْأَمِيرَ إِذَا هُمُ ... خَطِئُوا الصَّوَابَ وَلَا يُلَامُ الْمُرْشَدُ

يَعْنِي: أَخْطَئُوا الصَّوَابَ، وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي يَرْغَبُ الْعَبْدُ إِلَى رَبِّهِ فِي صَفْحِ مَا كَانَ مِنْهُ مِنْ إِثْمٍ عَنْهُ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ كُفْرًا، وَالْآخَرُ مِنْهُمَا مَا كَانَ عَنْهُ عَلَى وَجْهِ الْجَهْلِ بِهِ وَالظَّنِّ مِنْهُ بِأَنَّ لَهُ فِعْلَهُ كَالَّذِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَيْلًا وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ، أَوْ يُؤَخِّرُ صَلَاةً فِي يَوْمِ غَيْمٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ بِتَأْخِيرِهِ إِيَّاهَا دُخُولَ وَقْتِهَا فَيَخْرُجُ وَقْتُهَا وَهُوَ يَرَى أَنَّ وَقْتَهَا لَمْ يَدْخُلْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْخَطَأِ الْمَوْضُوعِ عَنِ الْعَبْدِ الَّذِي وَضَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ عِبَادِهِ الْإِثْمَ فِيهِ، فَلَا وَجْهَ لِمَسْأَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ أَنْ يُؤَاخِذَهُ بِهِ، وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْعَبْدِ رَبَّهُ أَنْ لَا يُؤَاخِذَهُ بِمَا نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ، إِنَّمَا هُوَ فِعْلٌ مِنْهُ لِمَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَوْ لِمَا نَدَبَهُ إِلَيْهِ مِنَ التَّذَلُّلِ لَهُ وَالْخُضُوعِ بِالْمَسْأَلَةِ، فَأَمَّا عَلَى وَجْهِ مَسْأَلَتِهِ الصَّفْحَ، فَمَا لَا وَجْهَ لَهُ عِنْدَهُمْ وَلِلْبَيَانِ عَنْ هَؤُلَاءِ كِتَابٌ سَنَأْتِي فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ لِمَنْ وُفِّقَ لفِهَمْهِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015