حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ , قَالَ: ثنا سَلَمَةُ , عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ , عَنْ عِكْرِمَةَ , أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ: كَانَ كَرْدَمُ بْنُ زَيْدٍ حَلِيفَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ , وَأُسَامَةَ بْنِ حَبِيبٍ , وَنَافِعِ بْنِ أَبِي نَافِعٍ , وَبْحِرِي بْنِ عَمْرٍو , وَحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ , وَرِفَاعَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ , يَأْتُونَ رِجَالًا مِنَ الْأَنْصَارِ , وَكَانُوا يُخَالِطُونَهُمْ , يَتَنَصَّحُونَ لَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَيَقُولُونَ لَهُمْ: لَا تُنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ فَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْكُمُ الْفَقْرَ فِي ذَهَابِهَا , وَلَا تُسَارِعُوا فِي النَّفَقَةِ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا يَكُونُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 37] أَيْ مِنَ النُّبُوَّةِ الَّتِي فِيهَا تَصْدِيقُ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 37] إِلَى قَوْلِهِ: {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} [النساء: 39] " فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ ذَوِي الْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِتَبْيِينِ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِتَبْيِينِهِ لِلنَّاسِ مِنِ اسْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا فِي كُتُبِهِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ , وَهُمْ بِهِ عَالِمُونَ , وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ , مِثْلَ عِلْمِهِمْ بِكِتْمَانِ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِتَبْيِينِهِ لَهُ , وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ وَمَعْرِفَتِهِ مَنْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ كِتْمَانَهُ إِيَّاهُ وَأَمَّا عَلَى تَأْوِيلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ زَيْدٍ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا , -[25]- الَّذِينَ يَبْخَلُونَ عَلَى النَّاسِ بِفَضْلِ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. ثُمَّ سَائِرِ تَأْوِيلِهِمَا وَتَأْوِيلِ غَيْرِهِمَا سَوَاءٌ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْبُخْلِ , بِتَعْرِيفِ مَنْ جَهَلَ أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَقٌّ , وَأَنَّ مُحَمَّدًا لِلَّهِ نَبِيُّ مَبْعُوثٌ , وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي كَانَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ بَيَّنَهُ فِيمَا أَوْحَى إِلَى أَنْبِيَائِهِ مِنْ كُتُبِهِ , فَبَخِلَ بِتَبْيِينِهِ لِلنَّاسِ هَؤُلَاءِ , وَأُمِرُوا مَنْ كَانَتْ حَالُهُ حَالَهُمْ فِي مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ أَنْ يَكْتُمُوهُ مَنْ جَهِلَ ذَلِكَ , وَلَا يُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ , لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ , وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ النَّاسَ بِالْبُخْلِ دِيَانَةً وَلَا تَخَلُّقًا , بَلْ تَرَى ذَلِكَ قَبِيحًا وَيُذَمُّ فَاعِلُهُ وَلَا يُمْتَدَحُ , وَإِنْ هِيَ تَخَلَّقَتْ بِالْبُخْلِ وَاسْتَعْمَلَتْهُ فِي أَنْفُسِهَا فَالسَّخَاءُ وَالْجُودُ تَعُدُّهُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَفْعَالِ وَتَحُثُّ عَلَيْهِ. وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّ بُخْلَهُمُ الَّذِي وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهِ إِنَّمَا كَانَ بُخْلًا بِالْعِلْمِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ آتَاهُمُوهُ , فَبَخِلُوا بِتَبْيِينِهِ لِلنَّاسِ , وَكَتَمُوهُ دُونَ الْبُخْلِ بِالْأَمْوَالِ. إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى ذَلِكَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِأَمْوَالِهِمُ الَّتِي يُنْفِقُونَهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ وَسُبُلِهِ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِتَرْكِ النَّفَقَةِ فِي ذَلِكَ , فَيَكُونُ بُخْلُهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَمْرُهُمُ النَّاسَ بِالْبُخْلِ. فَهَذَا الْمَعْنَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , فَيَكُونُ لِذَلِكَ وَجْهٌ مَفْهُومٌ فِي وَصْفِهِمْ بِالْبُخْلِ وَأَمْرِهِمْ بِهِ