عُرُوقَ كَلَامِكَ وَلَوْ أَجْمَعَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ عَلَى هَذَا الْبُرْهَانِ لَمَا تَخَلَّصُوا عَنْهُ إِلَّا بِالْتِزَامِ وُقُوعِ الْمُمْكِنِ لَا عَنْ مُرَجِّحٍ وَحِينَئِذٍ يَنْسَدُّ بَابُ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ أَوْ بِالْتِزَامِ أَنَّهُ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَهُوَ جَوَابُنَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لِلْعُقَلَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِبْلِيسَ حِينَ اشْتِغَالِهِ بِالْعِبَادَةِ كَانَ مُنَافِقًا كَافِرًا وَفِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: حَكَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الشَّهْرَسْتَانِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ الْمُسَمَّى «بِالْمِلَلِ وَالنِّحَلِ» عَنْ مَارِي شَارِحِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي التَّوْرَاةِ مُتَفَرِّقَةٌ عَلَى شَكْلِ مُنَاظَرَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ قَالَ إِبْلِيسُ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي أُسَلِّمُ أَنَّ لِي إِلَهًا هُوَ خَالِقِي، وَمُوجِدِي، وَهُوَ خَالِقُ الْخَلْقِ، لَكِنْ لِي عَلَى حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى أسئلة سبعة، الأولى: مَا الْحِكْمَةُ فِي الْخَلْقِ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَسْتَوْجِبُ عِنْدَ خَلْقِهِ الْآلَامَ؟ الثَّانِي: ثُمَّ مَا الْفَائِدَةُ فِي التَّكْلِيفِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَعُودُ مِنْهُ ضَرٌّ وَلَا نَفْعٌ وَكُلُّ مَا يَعُودُ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِهِ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ التَّكْلِيفِ؟ الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّهُ كَلَّفَنِي بِمَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ فَلِمَاذَا كَلَّفَنِي السُّجُودَ لِآدَمَ؟ الرَّابِعُ: ثُمَّ لَمَّا عَصَيْتُهُ فِي تَرْكِ السُّجُودِ لِآدَمَ فَلِمَ لَعَنَنِي وَأَوْجَبَ عِقَابِي مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ فِيهِ، وَلِي فِيهِ أَعْظَمُ الضَّرَرِ؟ الْخَامِسُ: ثُمَّ لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ فَلِمَ مَكَّنَنِي مِنَ الدُّخُولِ إِلَى الْجَنَّةِ وَوَسْوَسْتُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ السَّادِسُ: ثُمَّ لَمَّا فَعَلْتُ ذَلِكَ/ فَلِمَ سَلَّطَنِي عَلَى أَوْلَادِهِ وَمَكَّنَنِي مِنْ إِغْوَائِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ؟ السَّابِعُ: ثُمَّ لَمَّا اسْتَمْهَلْتُهُ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ فِي ذَلِكَ، فَلِمَ أَمْهَلَنِي. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَالَمَ لَوْ كَانَ خَالِيًا عَنِ الشَّرِّ لَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا؟ قَالَ شَارِحُ الْأَنَاجِيلِ: فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مِنْ سُرَادِقَاتِ الْجَلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ: يَا إِبْلِيسُ إِنَّكَ مَا عَرَفْتَنِي، وَلَوْ عَرَفْتَنِي لَعَلِمْتَ أَنَّهُ لاعتراض عليَّ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِي فَإِنِّي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا لَا أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ مِنَ الْخَلَائِقِ وَحَكَمُوا بِتَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ لَمْ يَجِدُوا عَنْ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ مَخْلَصًا وَكَانَ الْكُلُّ لَازِمًا، أَمَا إِذَا أَجَبْنَا بِذَلِكَ الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى زَالَتِ الشُّبُهَاتُ وَانْدَفَعَتِ الِاعْتِرَاضَاتُ وَكَيْفَ لَا وَكَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ فِي ذَاتِهِ وَاجِبُ الْوُجُودِ فِي صِفَاتِهِ فَهُوَ مُسْتَغْنٍ فِي فَاعِلِيَّتِهِ عَنِ الْمُؤَثِّرَاتِ وَالْمُرَجِّحَاتِ إِذْ لَوِ افْتَقَرَ لَكَانَ فَقِيرًا لَا غَنِيًّا فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَقْطَعُ الْحَاجَاتِ وَمُنْتَهَى الرَّغَبَاتِ وَمِنْ عِنْدِهِ نَيْلُ الطَّلَبَاتِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَتَطَرَّقِ اللِّمِّيَّةُ إِلَى أَفْعَالِهِ وَلَمْ يَتَوَجَّهِ الِاعْتِرَاضُ عَلَى خَالِقِيَّتِهِ وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ: جَلَّ جَنَابُ الْجَلَالِ عَنْ أَنْ يُوزَنَ بِمِيزَانِ الِاعْتِزَالِ فَهَذَا الْقَائِلُ أَجْرَى قَوْلَهُ تَعَالَى:
وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَقَالَ إِنَّهُ كَانَ كَافِرًا مُنَافِقًا مُنْذُ كَانَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا أَبَدًا قَوْلُ أَصْحَابِ الْمُوَافَاةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ الدَّائِمِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الثَّوَابِ الدَّائِمِ وَالْعِقَابِ الدَّائِمِ مُحَالٌ فَإِذَا صَدَرَ الْإِيمَانُ مِنَ الْمُكَلَّفِ فِي وَقْتٍ ثُمَّ صَدَرَ عَنْهُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ كُفْرٌ فَإِمَّا أَنْ يَبْقَى الِاسْتِحْقَاقَانِ مَعًا وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ أَوْ يَكُونَ الطَّارِئُ مُزِيلًا لِلسَّابِقِ وَهُوَ أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْإِحْبَاطِ بَاطِلٌ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا الْفَرْضَ مُحَالٌ وَشَرْطُ حُصُولِ الْإِيمَانِ أَنْ لَا يَصْدُرَ الْكُفْرُ عَنْهُ فِي وَقْتٍ قَطُّ فَإِذَا كَانَتِ الْخَاتِمَةُ عَلَى الْكُفْرِ عَلِمْنَا أَنَّ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ أَوَّلًا مَا كَانَ إِيمَانًا إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمَّا كَانَ خَتْمُ إِبْلِيسَ عَلَى الْكُفْرِ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا كَانَ مُؤْمِنًا قَطُّ، الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ كَانَ عَالِمًا فِي الْأَزَلِ بِأَنَّهُ سَيَكْفُرُ فَصِيغَةُ كَانَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْعِلْمِ لَا بِالْمَعْلُومِ، وَالْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَفَرَ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَبْلَ ذَلِكَ فَبَعْدَ مُضِيِّ كُفْرِهِ صَدَقَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنَ الْكَافِرِينَ وَمَتَى