كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لَمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ طَاعَاتِهِمْ أَكْثَرُ إِخْلَاصًا مِنْ طَاعَةِ آدَمَ فَلَا جَرَمَ كَانَ ثَوَابُهُمْ أَكْثَرَ. أَمَّا الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: فَهِيَ أَقْوَى الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ. أَمَّا الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 107] فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً لَهُمْ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْهُمْ كَمَا في قوله: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الرُّومِ: 50] وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَحْمَةً لَهُمْ مِنْ وَجْهٍ وَهُمْ يَكُونُونَ رَحْمَةً لَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَأَمَّا الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: وَهِيَ أَنَّ عِبَادَةَ الْبَشَرِ أَشَقُّ فَهَذَا يَنْتَقِضُ بِمَا أَنَّا نَرَى الْوَاحِدَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ يَتَحَمَّلُ فِي طَرِيقِ الْمُجَاهَدَةِ مِنَ الْمَشَاقِّ وَالْمَتَاعِبِ مَا يَقْطَعُ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَتَحَمَّلْ مِثْلَهَا مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنَ الْكُلِّ وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ كَثْرَةَ الثَّوَابِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي النِّيَّةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ أَسْهَلَ إِلَّا أَنَّ إِخْلَاصَ الْآتِي بِهِ أَكْثَرُ فَكَانَ الثَّوَابُ عَلَيْهِ أكثر. وما الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: فَهِيَ جَمْعٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ مِنْ غَيْرِ جَامِعٍ. وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: وَهِيَ أَنَّ الْمَحْفُوظَ أَشْرَفُ مِنَ الْحَافِظِ فَهَذَا مَمْنُوعٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ قَدْ يَكُونُ الْحَافِظُ أَشْرَفَ مِنَ الْمَحْفُوظِ كَالْأَمِيرِ الْكَبِيرِ الْمُوَكَّلِ عَلَى الْمُتَّهَمِينَ مِنَ الْجُنْدِ.
وَأَمَّا الْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ: فَهُمَا مِنْ بَابِ الْآحَادِ وَهُمَا مُعَارَضَانِ بِمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ شِدَّةِ تَوَاضُعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا آخِرُ الْمَسْأَلَةِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا اسْتَثْنَى إِبْلِيسَ مِنَ السَّاجِدِينَ فَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ كَانَ مَعْذُورًا فِي تَرْكِ السُّجُودِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ مَعَ الْقُدْرَةِ وَزَوَالِ الْعُذْرِ بِقَوْلِهِ أَبَى لِأَنَّ الْإِبَاءَ هُوَ الِامْتِنَاعُ مَعَ الِاخْتِيَارِ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ لَا يُقَالُ لَهُ إِنَّهُ أَبَى ثُمَّ قَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَلَا يَنْضَمُّ إِلَيْهِ الْكِبْرُ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِبَاءَ كَانَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِكْبَارِ بِقَوْلِهِ وَاسْتَكْبَرَ ثُمَّ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ الْإِبَاءُ وَالِاسْتِكْبَارُ مَعَ عَدَمِ الْكُفْرِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ كَفَرَ بِقَوْلِهِ: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قَالَ الْقَاضِي هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ أَهْلِ الْجَبْرِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْجُدْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى السُّجُودِ لِأَنَّ عِنْدَهُمُ الْقُدْرَةَ/ عَلَى الْفِعْلِ مُنْتَفِيَةٌ وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الشَّيْءِ يُقَالُ إِنَّهُ أَبَاهُ، وَثَانِيهَا: أَنَّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ لَا يُقَالُ اسْتَكْبَرَ بِأَنْ لَمْ يَفْعَلْ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْفِعْلِ لَا يُقَالُ اسْتَكْبَرَ عَنِ الْفِعْلِ وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِالِاسْتِكْبَارِ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ مَعَ كَوْنِهِ لَوْ أَرَادَ الْفِعْلَ لَأَمْكَنَهُ. وَثَالِثُهَا: قَالَ تَعَالَى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا بِأَنْ لَا يَفْعَلَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ اسْتِكْبَارَهُ وَامْتِنَاعَهُ خَلْقٌ مِنَ اللَّهِ فِيهِ فَهُوَ بِأَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مَذْمُومًا قَالَ وَمَنِ اعْتَقَدَ مَذْهَبًا يُقِيمُ الْعُذْرَ لِإِبْلِيسَ فَهُوَ خَاسِرُ الصَّفْقَةِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ هَذَا الْقَاضِيَ لَا يَزَالُ يُطْنِبُ فِي تَكْثِيرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَنَقُولُ لَهُ نَحْنُ أَيْضًا: صُدُورُ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَنْ إِبْلِيسَ عَنْ قَصْدٍ وَدَاعٍ أَوْ لَا عَنْ قَصْدٍ وَدَاعٍ؟ فَإِنْ كَانَ عَنْ قَصْدٍ وَدَاعٍ فَمِنْ أَيْنَ ذَلِكَ الْقَصْدُ؟ أَوَقَعَ لَا عَنْ فَاعِلٍ أَوْ عَنْ فَاعِلٍ هُوَ الْعَبْدُ أَوْ عَنْ فَاعِلٍ هُوَ اللَّهُ؟ فَإِنْ وَقَعَ لَا عَنْ فَاعِلٍ كَيْفَ يُثْبِتُ الصَّانِعُ وَإِنْ وَقَعَ عَنِ الْعَبْدِ فَوُقُوعِ ذَلِكَ الْقَصْدِ عَنْهُ إِنْ كَانَ عَنْ قَصْدٍ آخَرَ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَإِنْ كَانَ لَا عَنْ قَصْدٍ فَقَدْ وَقَعَ الْفِعْلُ لَا عَنْ قَصْدٍ وَسَنُبْطِلُهُ وَإِنْ وَقَعَ عَنْ فَاعِلٍ هُوَ اللَّهُ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُكَ كُلُّ مَا أَوْرَدْتَهُ عَلَيْنَا، أَمَّا إِنْ قُلْتَ وَقَعَ ذلك الفعل عنه لا عن قصد وادع فَقَدْ تَرَجَّحَ الْمُمْكِنُ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وَهُوَ يَسُدُّ بَابَ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ وُقُوعُ ذَلِكَ الْفِعْلِ اتِّفَاقِيًّا وَالِاتِّفَاقِيُّ لَا يَكُونُ فِي وُسْعِهِ وَاخْتِيَارِهِ فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِهِ وَيُنْهَى عَنْهُ فَيَا أَيُّهَا الْقَاضِي مَا الْفَائِدَةُ فِي التَّمَسُّكِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَتَكْثِيرِ الْوُجُوهِ الَّتِي يَرْجِعُ حَاصِلُهَا إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مَعَ أن مثل هذا البرهان القاطع ويقلع خلفك، ويستأصل