تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
[الْبَقَرَةِ: 195] عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَدَنِيِّ.
المسألة الثَّانِيَةُ: وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ أَنَّ الْبَرْقَ الَّذِي يَكُونُ صِفَتُهُ ذَلِكَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ نَارًا عَظِيمَةً خَالِصَةً، وَالنَّارُ ضِدُّ الْمَاءِ وَالْبَرَدِ فَظُهُورُهُ مِنَ الْبَرَدِ يَقْتَضِي ظُهُورَ الضِّدِّ مِنَ الضِّدِّ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِقُدْرَةِ قَادِرٍ حَكِيمٍ.
المسألة الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَهَبْتُ بِزَيْدٍ إِلَى الدَّارِ فَهَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ ذَاهِبًا مَعَهُ إِلَى الدَّارِ، فَالْمُنْكِرُونَ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ فَقِيلَ فِيهِ وُجُوهٌ: مِنْهَا تَعَاقُبُهُمَا وَمَجِيءُ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْآخَرِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً [الْفُرْقَانِ: 62] وَمِنْهَا وُلُوجُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ وَأَخْذُ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ. وَمِنْهَا تَغَيُّرُ أَحْوَالِهِمَا فِي الْبَرْدِ وَالْحَرِّ وَغَيْرِهِمَا وَلَا يَمْتَنِعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنْ يُرِيدَ تَعَالَى مَعَانِيَ الْكُلِّ لِأَنَّهُ فِي الْإِنْعَامِ وَالِاعْتِبَارِ أَوْلَى وَأَقْوَى.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ فَالْمَعْنَى أَنَّ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ دَلَالَةً لِمَنْ يَرْجِعُ إِلَى بَصِيرَةٍ، فَمِنْ هَذَا الوجه يَدُلُّ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتَدَبَّرَ وَيَتَفَكَّرَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، وَيَدُلَّ أَيْضًا عَلَى فَسَادِ التقليد.
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَدَلَّ أَوَّلًا بِأَحْوَالِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَثَانِيًا بِالْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ اسْتَدَلَّ ثَالِثًا بِأَحْوَالِ الْحَيَوَانَاتِ، وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ مِنَ الْمَاءِ؟ أَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَهُمْ أَعْظَمُ الْحَيَوَانَاتِ عَدَدًا وَهُمْ مَخْلُوقُونَ مِنَ النُّورِ، وَأَمَّا الْجِنُّ فَهُمْ مَخْلُوقُونَ مِنَ النَّارِ، وَخَلَقَ اللَّه آدَمَ مِنَ التُّرَابِ لِقَوْلِهِ: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آلِ عِمْرَانَ: 59] وَخَلَقَ عِيسَى مِنَ الرِّيحِ لِقَوْلِهِ: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [التَّحْرِيمِ: 12] وَأَيْضًا نَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ مُتَوَلِّدٌ لَا عَنِ النُّطْفَةِ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَحْسَنُ مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ ماءٍ صِلَةُ كُلِّ دَابَّةٍ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ صِلَةِ خَلَقَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ دَابَّةٍ مُتَوَلِّدَةٌ مِنَ الْمَاءِ فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ للَّه تَعَالَى وَثَانِيهَا: أَنَّ أَصْلَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَاءُ عَلَى مَا
يُرْوَى «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّه تَعَالَى جَوْهَرَةٌ فَنَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الْهَيْبَةِ فَصَارَتْ مَاءً ثُمَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ خَلَقَ النَّارَ وَالْهَوَاءَ وَالنُّورَ» ،
وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَكَانَ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمَاءُ لَا جَرَمَ ذَكَرَهُ عَلَى هَذَا الوجه وَثَالِثُهَا:
أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الدَّابَّةِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَمَسْكَنُهُمْ هُنَاكَ فَيَخْرُجُ عَنْهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ، وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ جِدًّا مِنْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ كَوْنُهُمْ مَخْلُوقِينَ مِنَ الْمَاءِ، إِمَّا لِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنَ النُّطْفَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا لَا تَعِيشُ إِلَّا بِالْمَاءِ لَا جَرَمَ أَطْلَقَ لَفْظَ الْكُلِّ تَنْزِيلًا لِلْغَالِبِ مَنْزِلَةَ الْكُلِّ.