الْأَجْسَامِ لَمْ يُمْكِنَّا الْقَطْعُ بِمَا ذَكَرْتُمُوهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ أَجْزَاءَ السَّحَابِ دُفْعَةً لَا بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ، وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْتُمْ، وَلَكِنَّ الْأَجْسَامَ بِالِاتِّفَاقِ مُمْكِنَةٌ فِي ذَوَاتِهَا فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُؤَثِّرٍ. ثُمَّ إِنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ، فَاخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِصِفَتِهِ الْمُعَيَّنَةِ مِنَ الصُّعُودِ وَالْهُبُوطِ وَاللَّطَافَةِ وَالْكَثَافَةِ وَالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُخَصِّصٍ، فَإِذَا كَانَ هُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقًا لِتِلْكَ الطَّبَائِعِ وَتِلْكَ الطَّبَائِعُ مُؤَثِّرَةٌ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَخَالِقُ السَّبَبِ خَالِقُ الْمُسَبَّبِ، فَكَانَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يُزْجِي سَحَابًا، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ تِلْكَ الطَّبَائِعَ الْمُحَرِّكَةَ لِتِلْكَ الْأَبْخِرَةِ مِنْ بَاطِنِ الْأَرْضِ إِلَى جَوِّ الْهَوَاءِ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْأَبْخِرَةَ إِذَا تَرَادَفَتْ فِي صُعُودِهَا وَالْتَصَقَ بَعْضُهَا بِالْبَعْضِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهَا رُكَامًا، فَثَبَتَ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ.

أَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي السَّمَاءِ جِبَالًا مِنْ بَرَدٍ خَلَقَهَا اللَّه تَعَالَى كَذَلِكَ، ثُمَّ يُنَزِّلُ مِنْهَا مَا شَاءَ وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ: جِبَالٌ مِنْ بَرَدٍ فِي السَّمَاءِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي:

أَنَّ السماء هو الغيم المرتفع على رؤوس النَّاسِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِسُمُوِّهِ وَارْتِفَاعِهِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ مِنْ هَذَا الْغَيْمِ الَّذِي هُوَ سَمَاءٌ الْبَرَدَ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ مِنْ جِبالٍ السَّحَابَ الْعِظَامَ لِأَنَّهَا إِذَا عَظُمَتْ أَشْبَهَتِ الْجِبَالَ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يَمْلِكُ جِبَالًا مِنْ مَالٍ وَوُصِفَتْ بِذَلِكَ تَوَسُّعًا وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْبَرَدَ مَاءٌ جَامِدٌ خَلَقَهُ اللَّه تَعَالَى فِي السَّحَابِ، ثُمَّ أَنْزَلَهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا سَمَّى اللَّه ذَلِكَ الْغَيْمَ جِبَالًا، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَهَا مِنَ الْبَرَدِ، وَكُلُّ جِسْمٍ شَدِيدٍ مُتَحَجِّرٍ فَهُوَ مِنَ الْجِبَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاءِ: 184] وَمِنْهُ فُلَانٌ مَجْبُولٌ عَلَى كَذَا، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ السَّمَاءَ اسْمٌ لِهَذَا الْجِسْمِ الْمَخْصُوصِ، فَجَعْلُهُ اسْمًا لِلسَّحَابِ بِطَرِيقَةِ الِاشْتِقَاقِ مَجَازٌ، وَكَمَا يَصِحُّ أَنْ يَجْعَلَ اللَّه الْمَاءَ فِي السَّحَابِ ثُمَّ يُنْزِلُهُ بَرَدًا، فَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي/ السَّمَاءِ جِبَالٌ مِنْ بَرَدٍ، وَإِذَا صَحَّ فِي الْقُدْرَةِ كِلَا الْأَمْرَيْنِ فَلَا وَجْهَ لِتَرْكِ الظَّاهِرِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَمِنَ الْأُولَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْإِنْزَالِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ مَا يُنَزِّلُهُ اللَّه بَعْضَ تِلْكَ الْجِبَالِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ وَالثَّالِثَةُ لِلتَّبْيِينِ لِأَنَّ جِنْسَ تِلْكَ الْجِبَالِ جِنْسُ الْبَرَدِ، ثم قال وَمَفْعُولُ الْإِنْزَالِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ، إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ فالظاهر أنه راجح إِلَى الْبَرَدِ، وَمَعْلُومٌ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ قَدْ يَضُرُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ مِنْ حَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ عَلَى وَفْقِ الْمَصْلَحَةِ وَيَصْرِفُهُ، أَيْ يَصْرِفُ ضَرَرَهُ عَمَّنْ يَشَاءُ بِأَنْ لَا يَسْقُطَ عَلَيْهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ الْبَرَدَ عَلَى الْحَجَرِ وَجَعَلَ نُزُولَهُ جَارِيًا مَجْرَى عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَذَلِكَ بِعِيدٌ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

المسألة الْأُولَى: قُرِئَ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ عَلَى الْإِدْغَامِ وَقُرِئَ (بُرُقِهِ) جَمْعُ بُرْقَةٍ وَهِيَ الْمِقْدَارُ مِنَ الْبَرْقِ وَبُرُقِهِ بِضَمَّتَيْنِ لِلْإِتْبَاعِ كَمَا قِيلَ فِي جَمْعِ فُعْلَةٍ فُعُلَاتٍ كَظُلُمَاتٍ، وَ (سَنَاءُ بَرْقِهِ) عَلَى الْمَدِّ وَالْمَقْصُورُ بِمَعْنَى الضَّوْءِ وَالْمَمْدُودُ بِمَعْنَى الْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ مِنْ قولك سنى للمرتفع ويَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ عَلَى زِيَادَةِ الْبَاءِ كَقَوْلِهِ: وَلا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015