وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الأحزاب: 72] فإن إدراك الملايم بعد الابتلاء بالمنافي ألذ من إدراك الملايم عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ وَلِذَلِكَ قَالَتِ الْأَطِبَّاءُ: إِنَّ الْحَرَارَةَ فِي حُمَّى الدِّقِّ أَشَدُّ مِنْهَا فِي حُمَّى الْغِبِّ لَكِنَّ حَرَارَةَ الْحُمَّى فِي الدِّقِّ إِذَا دَامَتْ وَاسْتَقَرَّتْ بَطَلَ الشُّعُورُ بِهَا فَهَذِهِ الْحَالَةُ لَمْ تَحْصُلْ لِلْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ كَمَالَاتِهَا دَائِمَةٌ وَلَمْ تَحْصُلْ لِسَائِرِ الْأَجْسَامِ لِأَنَّهَا كَانَتْ خَالِيَةً عَنِ الْقُوَّةِ الْمُسْتَعِدَّةِ لِإِدْرَاكِ الْمُجَرَّدَاتِ فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِمَّنْ يَقْوَى عَلَى تَحَمُّلِ هَذِهِ الْأَمَانَةِ إِلَّا الْبَشَرُ. الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: الرُّوحَانِيَّاتُ لَهُمْ قُوَّةٌ عَلَى تَصْرِيفِ الْأَجْسَامِ وَتَقْلِيبِ الْأَجْرَامِ وَالْقُوَّةُ الَّتِي هِيَ لَهُمْ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْقُوَى الْمِزَاجِيَّةِ حَتَّى يَعْرِضَ لَهَا كَلَالٌ وَلُغُوبٌ، ثُمَّ إِنَّكَ تَرَى الْخَامَةَ اللَّطِيفَةَ مِنَ الزَّرْعِ فِي بَدْءِ نُمُوِّهَا تَفْتَقُ الْحَجَرَ وَتَشُقُّ الصَّخْرَ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِقُوَّةٍ نَبَاتِيَّةٍ فَاضَتْ عَلَيْهَا مِنْ جَوَاهِرِ الْقُوَى السَّمَاوِيَّةِ فَمَا ظَنُّكَ بِتِلْكَ الْقُوَى السَّمَاوِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّاتُ هِيَ الَّتِي تَتَصَرَّفُ فِي الْأَجْسَامِ السُّفْلِيَّةِ تَقْلِيبًا وَتَصْرِيفًا لَا يَسْتَثْقِلُونَ حَمْلَ الْأَثْقَالِ وَلَا يَسْتَصْعِبُونَ تَحْرِيكَ الْجِبَالَ فَالرِّيَاحُ تَهُبُّ بَتَحْرِيكَاتِهَا وَالسَّحَابُ تَعْرِضُ وَتَزُولُ بِتَصْرِيفِهَا وَكَذَا الزَّلَازِلُ تَقَعُ فِي الْجِبَالِ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا وَالشَّرَائِعُ نَاطِقَةٌ بِذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً [الذَّارِيَاتِ: 4] وَالْعُقُولُ أَيْضًا دَالَّةٌ عَلَيْهِ وَالْأَرْوَاحُ السُّفْلِيَّةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَأَيْنَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ مِنَ الْآخَرِ. وَالَّذِي يُقَالُ إِنَّ الشَّيَاطِينَ الَّتِي هِيَ الْأَرْوَاحُ الْخَبِيثَةُ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ مَمْنُوعٌ وَبِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّ قُدْرَةَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى ذَلِكَ أَشَدُّ وَأَكْمَلُ وَلِأَنَّ الْأَرْوَاحَ الطَّيِّبَةَ الْمَلَكِيَّةَ تَصْرِفُ قُوَاهَا إِلَى مَنَاظِمِ هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَمَصَالِحِهَا وَالْأَرْوَاحَ الْخَبِيثَةَ تَصْرِفُ قُوَاهَا إِلَى الشُّرُورِ فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ. الِاعْتِرَاضُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَّفِقَ فِي النُّفُوسِ النَّاطِقَةِ الْبَشَرِيَّةِ نَفْسٌ قَوِيَّةٌ كَامِلَةٌ مُسْتَعْلِيَةٌ عَلَى الْأَجْرَامِ الْعُنْصُرِيَّةِ بِالتَّقْلِيبِ وَالتَّصْرِيفِ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِ مِثْلِ هَذِهِ النَّفْسِ. الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: الرُّوحَانِيَّاتُ لَهَا اخْتِيَارَاتٌ فَائِضَةٌ مِنْ أَنْوَارِ جَلَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى الْخَيْرَاتِ مَقْصُورَةٌ عَلَى نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ لَا يَشُوبُهَا الْبَتَّةَ شَائِبَةُ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ بِخِلَافِ اخْتِيَارَاتِ الْبَشَرِ فَإِنَّهَا مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ جِهَتِي الْعُلُوِّ وَالسَّفَالَةِ وَطَرَفَيِ الْخَيْرِ وَمَيْلُهُمْ إِلَى الْخَيْرَاتِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِإِعَانَةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ وَيَهْدِيهِ. الِاعْتِرَاضُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَالْمَجْبُورِينَ عَلَى طَاعَاتِهِمْ وَالْأَنْبِيَاءَ مُتَرَدِّدُونَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ

وَالْمُخْتَارُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَجْبُورِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ التَّرَدُّدَ مَا دَامَ يَبْقَى اسْتَحَالَ/ صُدُورُ الْفِعْلِ وَإِذَا حَصَلَ التَّرْجِيحُ الْتَحَقَ بِالْمُوجِبِ فَكَانَ لِلْأَنْبِيَاءِ خَيْرَاتٌ بِالْقُوَّةِ وَبِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ تَصِيرُ خَيْرَاتٍ بِالْفِعْلِ، أَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَهُمْ خَيْرَاتٌ بِالْفِعْلِ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ ذَاكَ الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: الرُّوحَانِيَّاتُ مُخْتَصَّةٌ بِالْهَيَاكِلِ وَهِيَ السَّيَّارَاتُ السَّبْعَةُ وَسَائِرُ الثَّوَابِتِ وَالْأَفْلَاكُ كَالْأَبْدَانِ وَالْكَوَاكِبُ كَالْقُلُوبِ وَالْمَلَائِكَةُ كَالْأَرْوَاحِ فَنِسْبَةُ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَرْوَاحِ كَنِسْبَةِ الْأَبْدَانِ إِلَى الْأَبْدَانِ ثُمَّ إِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اخْتِلَافَاتِ أَحْوَالِ الْأَفْلَاكِ مَبَادِئُ لِحُصُولِ الِاخْتِلَافَاتِ فِي أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ مِنْ حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ اتِّصَالَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنَ التَّسْدِيسِ وَالتَّثْلِيثِ وَالتَّرْبِيعِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُقَارَبَةِ وَكَذَا مَنَاطِقُ الْأَفْلَاكِ تَارَةً تَصِيرُ مُنْطَبِقَةً بَعْضُهَا عَلَى الْبَعْضِ وَذَلِكَ هُوَ الرَّتْقُ فَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ عِمَارَةُ الْعَالَمِ وَأُخْرَى يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا عَنِ الْبَعْضِ فَتَنْتَقِلُ الْعِمَارَةُ مِنْ جَانِبٍ هَذَا الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ مُسْتَوْلِيَةً عَلَى هَيَاكِلَ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ فَكَذَا أَرْوَاحُ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ لَا سِيَّمَا وَقَدْ دَلَّتِ الْمَبَاحِثُ الْحِكْمِيَّةُ وَالْعُلُومُ الْفَلْسَفِيَّةُ عَلَى أن أرواح هذا العالم معلومات لِأَرْوَاحِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَكِمَالَاتِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ مَعْلُولَاتٌ لِكِمَالَاتِ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ وَنِسْبَةُ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ إِلَى تِلْكَ الْأَرْوَاحِ كَالشُّعْلَةِ الصَّغِيرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُرْصِ الشَّمْسِ وَكَالْقَطْرَةِ الصَّغِيرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَحْرِ الْأَعْظَمِ فَهَذِهِ هِيَ الْآثَارُ وَهُنَاكَ الْمَبْدَأُ وَالْمَعَادُ فَكَيْفَ يَلِيقُ الْقَوْلُ بِادِّعَاءِ الْمُسَاوَاةِ فَضْلًا عَنِ الزِّيَادَةِ. الِاعْتِرَاضُ: كُلُّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُنَازَعٌ فِيهِ لَكِنْ بتقدير تسليمه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015