الِاعْتِرَاضُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الْخِدْمَةِ مَعَ كَثْرَةِ الْمَوَانِعِ وَالْعَوَائِقِ أَدَلُّ عَلَى الْإِخْلَاصِ مِنَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ مِنَ الْعَوَائِقِ وَالْمَوَانِعِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَقَامَ الْبَشَرِ فِي الْمَحَبَّةِ أَعْلَى وَأَكْمَلُ وَأَيْضًا فَالرُّوحَانِيَّاتُ لَمَّا أَطَاعَتْ خَالِقَهَا لَمْ تَكُنْ طَاعَتُهَا مُوجِبَةً قَهْرَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ/ هُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ، أَمَّا الْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ لَمَّا أَطَاعَتْ خَالِقَهَا لَزِمَ مِنْ تِلْكَ الطَّاعَةِ قَهْرُ الْقُوَى الشَّهْوَانِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ وَهِيَ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ فَكَانَتْ طَاعَاتُهُمْ أَكْمَلَ وَأَيْضًا فَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ دَرَجَاتِ الرُّوحَانِيَّاتِ حِينَ قَالَتْ: لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا
أَكْمَلُ مِنْ دَرَجَاتِهِمْ حِينَ قَالَتْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِسَبَبِ الِانْكِسَارِ الْحَاصِلِ مِنَ الزَّلَّةِ وَهَذَا فِي الْبَشَرِ أَكْمَلُ وَلِهَذَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِكَايَةً عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى: «لَأَنِينُ الْمُذْنِبِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ زَجَلِ الْمُسَبِّحِينَ»
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ:
الرُّوحَانِيَّاتُ مُبَرَّأَةٌ عَنْ طَبِيعَةِ الْقُوَّةِ فَإِنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُمْكِنًا لَهَا بِحَسَبِ أَنْوَاعِهَا الَّتِي فِي أَشْخَاصِهَا فَقَدْ خَرَجَ إِلَى الْفِعْلِ وَالْأَنْبِيَاءُ لَيْسُوا كَذَلِكَ، وَلِهَذَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِائَةَ مَرَّةٍ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ»
مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشُّورَى: 52] وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا بِالْفِعْلِ التَّامِّ أَشْرَفُ مِمَّا بِالْقُوَّةِ. الِاعْتِرَاضُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا بِالْفِعْلِ التَّامِّ فَلَعَلَّهَا بِالْقُوَّةِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَلِهَذَا قِيلَ إِنَّ تَحْرِيكَاتِهَا لِلْأَفْلَاكِ لِأَجْلِ اسْتِخْرَاجِ التَّعَقُّلَاتِ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ وَهَذِهِ التَّحْرِيكَاتُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا كَالتَّحْرِيكَاتِ الْعَارِضَةِ لِلْأَرْوَاحِ الْحَامِلَةِ لِقُوَى الْفِكْرِ وَالتَّخَيُّلِ عِنْدَ مُحَاوَلَةِ اسْتِخْرَاجِ التَّعَقُّلَاتِ الَّتِي هِيَ بِالْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: الرُّوحَانِيَّاتُ أَبَدِيَّةُ الْوُجُودِ مُبَرَّأَةٌ عَنْ طَبِيعَةِ التَّغَيُّرِ وَالْقُوَّةُ وَالنُّفُوسُ النَّاطِقَةُ الْبَشَرِيَّةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ.
الِاعْتِرَاضُ: الْمُقَدِّمَتَانِ مَمْنُوعَتَانِ أَلَيْسَ أَنَّ الرُّوحَانِيَّاتِ مُمْكِنَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا وَاجِبَةُ الْوُجُودِ بِمَادَّتِهَا فَهِيَ مُحْدَثَةٌ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ حَادِثَةٌ، بَلْ هِيَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَزَلِيَّةٌ وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: هَذِهِ الْأَرْوَاحُ كَانَتْ سَرْمَدِيَّةً مَوْجُودَةً كَالْأَظْلَالِ تَحْتَ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ إِلَّا أَنَّ الْمُبْدِئَ الْأَوَّلَ أَمَرَهَا حَتَّى نَزَلَتْ إِلَى عَالَمِ الْأَجْسَامِ وَسَكَنَاتِ الْمَوَادِّ، فَلَمَّا تَعَلَّقَتْ بِهَذِهِ الْأَجْسَامِ عَشِقَتْهَا. وَاسْتَحْكَمَ إِلْفُهَا بِهَا فَبَعَثَ مِنْ تِلْكَ الْأَظْلَالِ أَكْمَلَهَا وَأَشْرَفَهَا إِلَى هَذَا الْعَالَمِ لِيَحْتَالَ فِي تَخْلِيصِ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ عَنْ تِلْكَ السَّكَنَاتِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ بَابِ الْحَمَامَةِ الْمُطَوَّقَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي «كِتَابِ كَلَيْلَةَ وَدِمْنَةَ» . الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: الرُّوحَانِيَّاتُ نُورَانِيَّةٌ عُلْوِيَّةٌ لَطِيفَةٌ، وَالْجُسْمَانِيَّاتُ ظُلْمَانِيَّةٌ سُفْلِيَّةٌ كَثِيفَةٌ وَبِدَائِيَّةُ الْعُقُولِ تَشْهَدُ بِأَنَّ النُّورَ أَشْرَفُ مِنَ الظُّلْمَةِ، وَالْعُلْوِيَّ خَيْرٌ مِنَ السُّفْلِيِّ، وَاللَّطِيفَ أَكْمَلُ مِنَ الْكَثِيفِ. الِاعْتِرَاضُ: هَذَا كُلُّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَادَّةِ وَعِنْدَنَا سَبَبُ الشَّرَفِ الِانْقِيَادُ لِأَمْرِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى مَا قَالَ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاءِ: 85] وَادِّعَاءُ الشَّرَفِ بِسَبَبِ شَرَفِ الْمَادَّةِ هُوَ حُجَّةُ اللَّعِينِ الْأَوَّلِ وَقَدْ قِيلَ لَهُ مَا قِيلَ، الحجة السادسة: الروحانيات السماوية فضلت الجسمانية بِقُوَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. أَمَّا الْعِلْمُ فَلِاتِّفَاقِ الْحُكَمَاءِ عَلَى إِحَاطَةِ الرُّوحَانِيَّاتِ السَّمَاوِيَّةِ بِالْمُغَيَّبَاتِ وَاطِّلَاعِهَا عَلَى مُسْتَقْبَلِ الْأُمُورِ، وَأَيْضًا فَعُلُومُهُمْ فِعْلِيَّةٌ فِطْرِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ دَائِمَةٌ. وَعُلُومُ الْبَشَرِ عَلَى الضِّدِّ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَلِأَنَّهُمْ مُوَاظِبُونَ عَلَى الْخِدْمَةِ دَائِمًا يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ لَا يَلْحَقُهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ وَلَا سَهْوُ الْعُقُولِ وَلَا غَفْلَةُ الْأَبْدَانِ طَعَامُهُمُ التَّسْبِيحُ وَشَرَابُهُمُ التَّقْدِيسُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّهْلِيلُ وَتَنَفُّسُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَفَرْحَتُهُمْ بِخِدْمَةِ اللَّهِ مُتَجَرِّدُونَ مِنَ الْعَلَائِقِ الْبَدَنِيَّةِ/ غَيْرُ مَحْجُوبِينَ بِشَيْءٍ مِنَ الْقُوَى الشَّهْوَانِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ فَأَيْنَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ مِنَ الْآخَرِ: الِاعْتِرَاضُ: لَا نِزَاعَ فِي كُلِّ ما ذكرتموه إلا أن هاهنا دَقِيقَةً وَهِيَ أَنَّ الْمُوَاظِبَ عَلَى تَنَاوُلِ الْأَغْذِيَةِ اللَّطِيفَةِ لَا يَلْتَذُّ بِهَا كَمَا يَلْتَذُّ الْمُبْتَلَى بِالْجُوعِ أَيَّامًا كَثِيرَةً فَالْمَلَائِكَةُ بِسَبَبِ مُوَاظَبَتِهِمْ عَلَى تِلْكَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ لَا يَجِدُونَ مِنَ اللَّذَّةِ مِثْلَ مَا يَجِدُ الْبَشَرُ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ مَحْجُوبِينَ بِالْعَلَائِقِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالْحُجُبِ الظُّلْمَانِيَّةِ فَهَذِهِ الْمَزِيَّةُ مِنَ اللَّذَّةِ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهَا البشر