وَالنَّوْعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ.
اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بَلَغَ تَمَامَ الْكَمَالِ فَقَدْ وَفَى وَتَمَّ. يُقَالُ: دِرْهَمٌ وَافٍ وَكَيْلٌ وَافٍ وَأَوْفَيْتُهُ حَقَّهُ وَوَفَّيْتُهُ إِذَا أَتْمَمْتَهُ وَأَوْفَى الْكَيْلَ إِذَا أَتَمَّهُ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْئًا وَقَوْلُهُ: وَالْمِيزانَ
أَيِ الْوَزْنَ بِالْمِيزَانِ وَقَوْلُهُ:
بِالْقِسْطِ
أَيْ بِالْعَدْلِ لَا بَخْسَ وَلَا نُقْصَانَ.
فَإِنْ قِيلَ: إِيفَاءُ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ هُوَ عَيْنُ الْقِسْطِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ؟
قُلْنَا: أَمَرَ اللَّهُ الْمُعْطِيَ بِإِيفَاءِ ذِي الْحَقِّ حَقَّهُ من غير نقصان وَأَمَرَ صَاحِبَ الْحَقِّ بِأَخْذِ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ الزِّيَادَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَهَّمَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى التَّحْقِيقِ وذلك صعب شديدة فِي الْعَدْلِ أَتْبَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا يُزِيلُ هَذَا التَّشْدِيدَ فَقَالَ: لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
أَيِ الْوَاجِبُ فِي إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ هذا القدر الممكن في إيفاء الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ أَمَّا التَّحْقِيقُ فَغَيْرُ وَاجِبٍ. قَالَ الْقَاضِي: إِذَا كَانَ تَعَالَى قَدْ خَفَّفَ عَلَى الْمُكَلَّفِ هَذَا التَّخْفِيفَ مَعَ أَنَّ مَا هُوَ التَّضْيِيقُ مَقْدُورٌ لَهُ فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ تَعَالَى يُكَلِّفُ الْكَافِرَ الْإِيمَانَ مَعَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ؟ بَلْ قَالُوا: يَخْلُقُ الْكُفْرَ فِيهِ وَيُرِيدُهُ مِنْهُ وَيَحْكُمُ بِهِ عَلَيْهِ وَيَخْلُقُ فِيهِ الْقُدْرَةَ الْمُوجِبَةَ لِذَلِكَ الْكُفْرِ وَالدَّاعِيَةَ الْمُوجِبَةَ لَهُ ثُمَّ يَنْهَاهُ عَنْهُ فَهُوَ تَعَالَى لَمَّا لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنَ التَّشْدِيدِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ إِيفَاءُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ عَلَى سَبِيلِ التحقيق فكيف يُضِيفَ عَلَى الْعَبْدِ مِثْلَ هَذَا التَّضْيِيقِ وَالتَّشْدِيدِ؟
وَاعْلَمْ أَنَّا نُعَارِضُ الْقَاضِيَ وَشُيُوخَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَسْأَلَةِ الْعِلْمِ وَمَسْأَلَةِ الدَّاعِي وَحِينَئِذٍ يَنْقَطِعُ وَلَا يَبْقَى لِهَذَا الْكَلَامِ رُوَاءٌ وَلَا رَوْنَقٌ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ التَّكَالِيفِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا أَيْضًا مِنَ الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا أَدَاءَ الْأَمَانَةِ وَالْمُفَسِّرُونَ حَمَلُوهُ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَقَطْ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَقَطْ قَالَ الْقَاضِي وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا يَتَّصِلُ بِالْقَوْلِ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا يَقُولُ الْمَرْءُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ وَتَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ بِأَنْ يَذْكُرَ الدَّلِيلَ مُلَخَّصًا عَنِ الْحَشْوِ وَالزِّيَادَةِ بِأَلْفَاظٍ مَفْهُومَةٍ مُعْتَادَةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الْأَفْهَامِ وَيَدْخُلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاقِعًا عَلَى وَجْهِ الْعَدْلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي الْإِيذَاءِ وَالْإِيحَاشِ وَنُقْصَانٍ عَنِ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْحِكَايَاتُ الَّتِي يَذْكُرُهَا الرَّجُلُ حَتَّى لَا يَزِيدَ فِيهَا وَلَا يَنْقُصَ عَنْهَا وَمِنْ جُمْلَتِهَا تَبْلِيغُ الرِّسَالَاتِ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَيَدْخُلُ فِيهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِالْقَوْلِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُسَوَّى فِيهِ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ طَلَبَ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَخْتَلِفْ ذَلِكَ بِالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ.
وَالنَّوْعُ الرَّابِعُ: مِنْ هَذِهِ التَّكَالِيفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
وَهَذَا مِنْ خَفِيَّاتِ الْأُمُورِ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَحْلِفُ مَعَ نَفْسِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْحَلِفُ خَفِيًّا وَيَكُونُ بِرُّهُ وَحِنْثُهُ أَيْضًا خَفِيًّا وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْأَقْسَامَ قَالَ:
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا السَّبَبُ فِي أَنْ جَعَلَ خَاتِمَةَ الْآيَةِ الْأُولَى بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الانعام: 151] وَخَاتِمَةَ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
.