وَالنَّوْعُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ الْفَوَاحِشِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ لِفَائِدَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْإِفْرَادَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ كَقَوْلِهِ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْهُ وَلَا يَتَأَتَّى هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي جُمْلَةِ الْفَوَاحِشِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: إِلَّا بِالْحَقِّ أَيْ قَتْلُ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ قَدْ يَكُونُ حَقًّا لِجُرْمٍ يَصْدُرُ مِنْهَا.
وَالْحَدِيثُ أَيْضًا مُوَافِقٌ لَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ وَزِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» وَالْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى سَبَبٍ رَابِعٍ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [الْمَائِدَةِ: 33] .
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي قَتْلِ النَّفْسِ هُوَ الْحُرْمَةُ وَحِلُّهُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَحْوَالَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ أَتْبَعَهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي يُقَرِّبُ إِلَى الْقَلْبِ الْقَبُولَ فَقَالَ: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لِمَا فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ مِنَ اللُّطْفِ وَالرَّأْفَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ لِيَكُونَ الْمُكَلَّفُ أَقْرَبَ إِلَى الْقَبُولِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أَيْ لِكَيْ تَعْقِلُوا فَوَائِدَ هَذِهِ التَّكَالِيفِ وَمَنَافِعَهَا في الدين والدنيا.
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ التَّكَالِيفِ وَهِيَ أُمُورٌ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ لَا حَاجَةَ فِيهَا إِلَى الْفِكْرِ وَالِاجْتِهَادِ ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ التَّكَالِيفِ وَهِيَ أُمُورٌ خَفِيَّةٌ يَحْتَاجُ الْمَرْءُ الْعَاقِلُ فِي مَعْرِفَتِهِ بِمِقْدَارِهَا إِلَى التَّفَكُّرِ والتأمل والاجتهاد.
فالنوع الاولى: مِنَ التَّكَالِيفِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قال في سورة البقرة: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [الْبَقَرَةِ: 220] وَالْمَعْنَى: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِأَنْ يَسْعَى فِي تَنْمِيَتِهِ وَتَحْصِيلِ الرِّبْحِ بِهِ وَرِعَايَةِ وُجُوهِ الْغِبْطَةِ لَهُ ثُمَّ إِنْ كَانَ الْقَيِّمُ فَقِيرًا مُحْتَاجًا أَخَذَ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَاحْتَرَزَ عَنْهُ كَانَ أَوْلَى فَقَوْلُهُ: إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
مَعْنَاهُ كَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النِّسَاءِ: 6] .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
فَالْمَعْنَى احْفَظُوا مَالَهُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ فَإِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ فَادْفَعُوا إِلَيْهِ مَالَهُ. وَأَمَّا مَعْنَى الْأَشُدِّ وَتَفْسِيرُهُ: قَالَ اللَّيْثُ: الْأَشُدُّ مَبْلَغُ الرَّجُلِ الْحِكْمَةَ وَالْمَعْرِفَةَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَشُدُّ. وَاحِدُهَا شَدٌّ فِي الْقِيَاسِ وَلَمْ أَسْمَعْ لَهَا بِوَاحِدٍ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: وَاحِدَةُ الْأَشُدِّ شِدَّةٌ كَمَا أَنَّ وَاحِدَةَ الْأَنْعُمِ نِعْمَةٌ وَالشِّدَّةُ: الْقُوَّةُ وَالْجَلَادَةُ وَالشَّدِيدُ الرَّجُلُ الْقَوِيُّ وَفَسَّرُوا بُلُوغَ الْأَشُدِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بالاحتلام بشرط ان يونس مِنْهُ الرُّشْدُ وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ.