تَعَالَى مَنَعَ الزَّوْجَ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا مِنَ الْمَهْرِ، وَهَذَا الْمَنْعُ مُطْلَقٌ تَرْكُ الْعَمَلِ/ بِهِ قَبْلَ الْخَلْوَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ بَعْدَ الْخَلْوَةِ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [الْبَقَرَةِ: 237] وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْمَسِيسِ

فَقَالَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ: الْمُرَادُ مِنَ الْمَسِيسِ الْخَلْوَةُ،

وَقَالَ عَبْدُ اللَّه: هُوَ الْجِمَاعُ، وَإِذَا صَارَ مُخْتَلَفًا فِيهِ امْتَنَعَ جَعْلُهُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ هَذِهِ الآية.

والجواب: إن هذه الآية المذكورة هاهنا مُخْتَصَّةٌ بِمَا بَعْدَ الْجِمَاعِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَإِفْضَاءُ بَعْضِهِمْ إِلَى الْبَعْضِ هُوَ الْجِمَاعُ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَسَنُقِيمُ الدَّلَائِلَ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ سُوءَ الْعِشْرَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ، فَإِنْ كَانَ من قبل الزوج كره له أنه يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ مَهْرِهَا لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً صَرِيحٌ فِي أَنَّ النُّشُوزَ إِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَهْرِهَا شَيْئًا، ثُمَّ إِنْ وَقَعَتِ الْمُخَالَعَةُ مَلَكَ الزَّوْجُ بَدَلَ الْخُلْعِ، كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ وَقْتَ النِّدَاءِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ، وَإِذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ فَهَهُنَا يَحِلُّ أَخْذُ بَدَلِ الْخُلْعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء: 19] .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْبُهْتَانُ فِي اللُّغَةِ الْكَذِبُ الَّذِي يُوَاجِهُ الْإِنْسَانُ بِهِ صَاحِبَهُ عَلَى جِهَةِ الْمُكَابَرَةِ، وَأَصْلُهُ مِنْ بُهِتَ الرَّجُلُ إِذَا تَحَيَّرَ، فَالْبُهْتَانُ كَذِبٌ يُحَيِّرُ الْإِنْسَانَ لِعَظَمَتِهِ، ثُمَّ جَعَلَ كُلَّ بَاطِلٍ يُتَحَيَّرُ مِنْ بُطْلَانِهِ بُهْتاناً، وَمِنْهُ

الْحَدِيثُ: «إِذَا وَاجَهْتَ أَخَاكَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي أَنَّهُ لِمَ انْتَصَبَ قَوْلُهُ: بُهْتاناً وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزجاج: البهتان هاهنا مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: أَتَأْخُذُونَهُ مُبَاهِتِينَ وَآثِمِينَ. الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يُحْتَمَلُ أَنَّهُ انْتَصَبَ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَرَضًا فِي الْحَقِيقَةِ، كَقَوْلِكَ: قَعَدَ عَنِ الْقِتَالِ جُبْنًا. الثَّالِثُ: انْتَصَبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ بِبُهْتَانٍ. الرَّابِعُ: فِيهِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ: تُصِيبُونَ بِهِ بُهْتَانًا وَإِثْمًا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَسْمِيَةِ هَذَا الْأَخْذِ «بُهْتَانًا» وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى فَرَضَ لَهَا ذَلِكَ الْمَهْرَ فَمَنِ اسْتَرَدَّهُ كَانَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِفَرْضٍ فَيَكُونُ بُهْتَانًا. الثَّانِي: أَنَّهُ عِنْدَ الْعَقْدِ تَكَفَّلَ بِتَسْلِيمِ ذَلِكَ الْمَهْرِ إِلَيْهَا، وَأَنْ لَا يَأْخُذَهُ مِنْهَا، فَإِذَا أَخَذَهُ صَارَ ذَلِكَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بُهْتَانًا. الثَّالِثُ: أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ دَأْبِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا تَطْلِيقَ الزَّوْجَةِ رَمَوْهَا بِفَاحِشَةٍ حَتَّى تَخَافَ وَتَشْتَرِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ/ بِذَلِكَ الْمَهْرِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْأَمْرُ وَاقِعًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي الْأَغْلَبِ الْأَكْثَرِ، جُعِلَ كَأَنَّ أَحَدَهُمَا هُوَ الْآخَرُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ أَمْرَ اللَّه، فَإِذَا أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا أَشْعَرَ ذَلِكَ بِأَنَّهَا قَدْ أَتَتْ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ صَحَّ وَصْفُ ذَلِكَ الْأَخْذِ بِأَنَّهُ بُهْتَانٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إِتْيَانِهَا بِالْفَاحِشَةِ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَفِيهِ تَقْرِيرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ أَخْذَ الْمَالِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015