تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فِيهِ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَنَّكُمْ إِنْ كَرِهْتُمْ صُحْبَتَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ فِي صُحْبَتِهِنَّ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ فَتَارَةً فَسَّرَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ بِوَلَدٍ يَحْصُلُ فَتَنْقَلِبُ الْكَرَاهَةُ مَحَبَّةً، وَالنَّفْرَةُ رَغْبَةً وَتَارَةً بِأَنَّهُ لَمَّا كره صحبتها ثم إنه يحمل ذَلِكَ الْمَكْرُوهَ طَلَبًا لِثَوَابِ اللَّه، وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا عَلَى خِلَافِ الطَّبْعِ، اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ فِي الْعُقْبَى وَالثَّنَاءَ الْجَمِيلَ فِي الدُّنْيَا، الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ وَرَغِبْتُمْ فِي مُفَارَقَتِهِنَّ، فَرُبَّمَا جَعَلَ اللَّه فِي تِلْكَ المفارقة لهن خيرا كثيرا، ذلك بِأَنْ تَتَخَلَّصَ تِلْكَ الْمَرْأَةُ مِنْ هَذَا الزَّوْجِ وَتَجِدَ زَوْجًا خَيْرًا مِنْهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ:
وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النِّسَاءِ: 130] وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَثَّ بِمَا ذَكَرَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الصُّحْبَةِ، فَكَيْفَ يُرِيدُ بذلك المفارقة.
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)
النوع الرابع: من التكاليف المتعلقة بالنساء.
[في قوله تعالى وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً] / فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى لَمَّا أَذِنَ فِي مُضَارَّةِ الزَّوْجَاتِ إِذَا أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَحْرِيمَ الْمُضَارَّةِ فِي غَيْرِ حَالِ الْفَاحِشَةِ فَقَالَ: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ
رُوِيَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ إِذَا مَالَ إِلَى التَّزَوُّجِ بِامْرَأَةٍ أُخْرَى رَمَى زَوْجَةَ نَفْسِهِ بِالْفَاحِشَةِ حَتَّى يُلْجِئَهَا إِلَى الِافْتِدَاءِ مِنْهُ بِمَا أَعْطَاهَا لِيَصْرِفَهُ إِلَى تَزَوُّجِ الْمَرْأَةِ الَّتِي يُرِيدُهَا
قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ الْآيَةَ وَالْقِنْطَارُ الْمَالُ الْعَظِيمُ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمران: 14] .
المسألة الثانية: قَالُوا: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمُغَالَاةِ فِي الْمَهْرِ،
رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: أَلَا لَا تُغَالُوا فِي مُهُورِ نِسَائِكُمْ، فَقَامَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ اللَّه يُعْطِينَا وَأَنْتَ تَمْنَعُ وَتَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ، وَرَجَعَ عَنْ كَرَاهَةِ الْمُغَالَاةِ.
وَعِنْدِي أَنَّ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى جَوَازِ الْمُغَالَاةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إِيتَاءِ الْقِنْطَارِ كَمَا أَنَّ قَوْلُهُ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] لَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْآلِهَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَعْلِ الشَّيْءِ شَرْطًا لِشَيْءٍ آخَرَ كَوْنُ ذَلِكَ الشَّرْطِ فِي نَفْسِهِ جَائِزَ الْوُقُوعِ،
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ»
وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ جَوَازُ الْقَتْلِ، وَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ: لَوْ كَانَ الْإِلَهُ جِسْمًا لَكَانَ مُحْدَثًا، وَهَذَا حَقٌّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ قَوْلَنَا: الْإِلَهُ جِسْمٌ حَقٌّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ يَدْخُلُ فِيهَا مَا إِذَا آتَاهَا مَهْرَهَا وَمَا إِذَا لَمْ يُؤْتِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الْعَقْدَ عَلَى ذَلِكَ الصَّدَاقِ فِي حُكْمِ اللَّه، فَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ مَا إِذَا آتَاهَا الصَّدَاقَ حِسًّا، وَبَيْنَ مَا إِذَا لَمْ يُؤْتِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ تُقَرِّرَ الْمَهْرَ، قَالَ وَذَلِكَ لأن اللَّه