قال تعالى: ((وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي))، فهذه دعوة عظيمة جامعة، فقد دعا لنفسه، ودعا لوالديه، ودعا لذريته، وحمد الله وشكره على ما أنعم عليه.
وهي دعوة عظيمة ينبغي على كل مسلم أن يدعو بها، فصلاح الذرية أمر عظيم ينفع صاحبها، وصلاح ذريتك تنتفع بها في الدنيا وفي الآخرة، والولد الصالح قرة عين للوالدين في حياته وبعد مماته، ففي حياته ينتفع بصلاحه فلعل الولد يدعو دعوة لوالديه فيستجاب له فيها، والولد الصالح دائماً يدعو لوالديه: {رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]، والولد الصالح دائماً يعمل الصالح، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الولد من كسب أبيه)، فكلما عمل شيئاً أنت علمته إياه، أو أنت دللته عليه، أو هو تعلم هذا الشيء فإنك تؤجر أنت على هذا الشيء، فكان الولد الصالح مكسباً عظيماً لوالديه، فكلما عمل شيئاً أُجر الوالدين عليه.
وإذا مات هذا الولد واحتسبه الوالدان كان لهما الأجر العظيم عند الله، فيسبقهما إلى الجنة إذا كان صغيراً، ويأخذ بأيديهما إلى الجنة، ويجادل ويدافع عنهما أمام الله عز وجل يوم القيامة حتى يذهب بهما إلى الجنة، وإذا كان كبيراً شُفع في والديه، فشفع فيهما، فكان نفعاً عظيماً في الدنيا وفي الآخرة.
والكثير من الناس همه أن يكون الأولاد في مراكز محترمة، وأن يكونوا شيئاً كبيراً، ولعل هذا الذي يتمناه لهما يكون شرا عليهما، فبعض الناس يتمنى أن يكون ابنه وزيراً كبيراً، فيكون سارياً في ركاب الأشرار، ويضيع في النهاية ويكون من أهل النار، ولم ينتفع بذلك، ولكن ادع لابنك بالصلاح سواءً كان وزيراً أو رئيساً أو عاملاً، فعليك أن تدعو له بالصلاح، وأن يهيئ له ربه من أمره رشداً، ولا تختر أنت ولكن اطلب من ربك أن يختار له الخير.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قصة امرأة وغلامها الرضيع، فبينما كانت المرأة تحمل ولدها وترضعه إذ مر بهما رجل عليه شارة، وله أتباع، فالمرأة نظرت إليه ثم رفعت يديها ودعت ربها: اللهم! اجعل ابني مثل هذا، تريد أن يكون مثله، فترك ثديها، وقال: اللهم! لا تجعلني مثله، اللهم! لا تجعلني مثله، فتعجبت المرأة.
ومرت بهما فتاة يقولون: إنها سرقت، والناس يضربونها، فدعت الله وقالت: اللهم! لا تجعل ابني مثلها في المهانة التي هي فيها، فترك ثديها وقال: اللهم! اجعلني مثلها.
ثم أخبرها أن هذا من الأشرار، وأنه وإن كان كبيراً في قومه، ومقدماً عند الناس لكنه عند الله في النار، وأما الفتاة فهي مظلومة، وهي عابدة لله عز وجل، فدعوت الله ألا يجعلني مثل هذا، وأن يجعلني مثل هذه.
فالإنسان لا يعرف الغيب، ولا ما الذي يخبئه القدر، وكم من إنسان يتمنى الشيء حتى يناله، فإذا ناله أصابته التعاسة، وإذا به يتمنى لو أنه لم ينل هذا الشيء، وكم من إنسان كان وزيراً كبيراً، وبعد ذلك يرمى في السجن، والكل ينظر إليه ولا أحد يرحمه.
وكم من إنسان كان قاضياً كبيراً، وقد وصل إلى هذه الدرجة إما بمال، وإما بجهد وتعب، وإما بوساطة، وإذا به ينفتح كرشه على الناس فيمد يده لهذا ولهذا، وإذا به يصير مسجوناً مثله مثل المساجين، ويتمنى لو أنه لم يكن في هذا المنصب، لذلك لا تقول أبداً: يا رب! أنا أريد ابني يكون كذا، ولكن سل ربك الخير.
ولذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا نزل بأحد البلاء فإنه لا يتخير على ربه سبحانه، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يدعون أحدكم على نفسه بالموت، وإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم! أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خير لي)، فارجع الأمر إلى الله عز وجل، فكم من إنسان يدعو: يا رب! أنا أريد أن أكون مشهوراً، فتجلب شهرته وصحبته لهؤلاء الناس عليه الشر والتعاسة والبؤس والضياع، وكم من إنسان زاهد بعيد عن الفتن، والله عز وجل يعصمه ويعطيه، فكل إنسان مهيأ وميسر لما خلق له، فلا تتمنى ما عند غيرك، فقد أعطى غيرك المال فكان حسناً، وأجاد في إنفاق هذا المال، وحرم فلاناً من المال؛ لأن الله عز وجل حجب عنه الفتن، فهو لا يقدر على فتنة المال، فالله سبحانه أعلم بما يستحقه العباد.
قامت السيدة عائشة رضي الله عنها مرة تدعو ربها سبحانه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (عليك بالجوامع) يعني: لا تفصِّلي في الدعاء، فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الدعاء: (اللهم إني أسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسألك من خير ما سألك عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم، وما قضيت لي من قضاء أن تجعل عاقبته خيراً)، فيكون بذلك قد جمع كل دعاء جميل في ذلك؛ ولذلك لما جاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه معاذاً رضي الله عنه وأنه أطال في الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر كلامه لهذا الرجل: (بم تدعو يا فلان؟! قال: أدعو وأقول: اللهم! إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، وما أدري ما دندنتك وما دندنة معاذ) يعني الدعاء الكثير الذي تقوله أنت ومعاذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (حولهما ندندن) أي: فأنت اختصرت حين قلت: اللهم إني أسألك الجنة، اللهم أجرني من النار.
وعلى الإنسان المؤمن حين يدعو ربه سبحانه أن يكون فطناً، فيدعو لآخرته، ولا ينسى نصيبه من الدنيا، ولا ينسى حظه منها، ولكن لا تختر على ربك، ولا تحدد؛ فأنت لا تدري لعل الهلاك يكون في هذا الشيء، ولعلك لا تناله، ولعله يكون حسرة عليك، ولذلك اطلب من الله الخير، وإذا أردت شيئاً بعينه فاطلبه وقيده إن كان خيراً لك.
ولك أن تستخير ربك سبحانه في الأمر، ولا تختار على الله، فالله هو الذي يختار، فهنا دعا وفي آخر دعاء الاستخارة يقول: (إني تبت إليك وإني من المسلمين)، إذاً فهو طالب من الله وتائب إلى الله.
وأعظم ما يفتخر به العبد أن يقول: أنا مسلم، وهذه الكلمة سماك الله عز وجل بها، قال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78]، فالله سبحانه سماكم المسلمين من قبل، وهذه التسمية هي ما كان عليها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، فالله سبحانه يعلمنا دعاء الاستخارة، وزيادة على الدعاء الوارد في الآية ما ذكره الله في قصة سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقد دعا بمثل ذلك وقال: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19]، فكان حسناً أن تجمع بين الدعاءين وأن تطلب من الله عز وجل أن يعينك وأن يوزعك أن تشكر نعمته التي أنعم عليك وعلى والديك، وأن تعمل صالحاً ترضاه، وتقول: (وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين)، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده الصالحين، وأن يدخلنا برحمته في عباده الصالحين أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.