الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15].
ذكر الله سبحانه وتعالى هنا الوصية بالإحسان إلى الوالدين، وقد قدمنا ما فيها قبل ذلك، وأن الله سبحانه أمر بعبادته وثنىّ بشكر الوالدين، قال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]، وقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14].
فتعبد ربك سبحانه وتشكره، وتشكر لوالدين وتحسن إليهما؛ جزاء بما قدما لك.
قوله سبحانه: ((حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً)) وهذا هو سن الكمال للإنسان الذي نشأ على الخير خلال هذه الفترة، ومن الصعب أن يتحول بعد ذلك إلا أن يشاء الله سبحانه، والذي نشأ على الشر حتى بلغ هذا العمر فإنه يظل على خصال الشر بعد ذلك إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى؛ لذلك بعض الناس وهو شاب صغير يكون فيه طيش، ولكنه بعد ذلك يعقل ويراجع نفسه ويرجع إلى الله سبحانه، لكن الذي يكون في طيش حتى هذا السن وحتى يجاوزه فصعب أن يرجع إلى صوابه، وإذا رجع فإنك تجد فيه نفوراً وشراً إلا أن يشاء الله سبحانه.
ووصف الله عز وجل هذا السن بأنه سن الكمال الذي إذا بلغ الإنسان فيه على شيء فإنه يكمل على هذا الشيء الذي هو فيه، فالإنسان المؤمن التقي الذي نشأ على تقوى الله عز وجل، إذا وصل لهذا السن عليه أن يعد نفسه للموت.
والأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يتجاوز ذلك)، فهو لم يقل: كل أمتي يبلغون إلى الستين أو السبعين، فمنهم من يموت وهو في بطن أمه، ومنهم من يموت وهو طفل صغير، ومنهم من يموت وهو شاب صغير، والله أعلم بما يبلغه عبده.
فعلى الإنسان أن يجهز نفسه دائماً للقاء الله سبحانه، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الصلاة: (صل صلاة مودع)، فعليك أن تقف في الصلاة وكأن هذه آخر صلاة تصليها، فإذا فعلت ذلك أحسنت في هذه الصلاة، وإذا نمت فتتوقع أنه من الممكن ألا تقوم من نومتك، والنوم هو الموتة الصغرى، كما ذكر لنا ذلك الله سبحانه، وذكره لنا النبي صلى الله عليه وسلم.
فالإنسان حين ينام يقول: (باسمك اللهم وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)، فمن المتوقع أن ينام ولا يقوم، ولذلك يقول: إن أمسكت نفسي، فالله يتوفى الأنفس حين موتها، ويقبض هذه النفوس، فالقبضة الصغرى هي النوم.
ففي هذه الآية يذكر الله سبحانه: ((حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً))، فهنا أصبحت قوة الإنسان مكتملة، وأصبح عقل الإنسان وتفكيره مكتملاً، فله خبرة ناضجة في الحياة في هذا السن، فيقوم بعد هذا كله يدعو ربه دعاء استعداد للرحيل، واستعداد للآخرة.
فالذي مضى من العمر هو أربعون سنة، ولو عاش الباقي فسيعيش نصف الماضي ويصل عمره إلى ستين سنة، ولعله لا يبلغ ذلك، فيجهز نفسه للقاء الله سبحانه بالعمل الصالح.
قال تعالى: ((قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ))، فقد عشت أربعين سنة، فأطعمني الله فيها وسقاني وكساني وآواني ورزقني وأعطاني ومنّ علي بكل خير سبحانه، فيقول: يا رب! أنعمت علي بنعم عظيمة، فأوزعني -أي: حثني وحرضني وادفعني وأعني- أن أشكرك، وكفني عن كل شيء إلا عن طاعتك وإلا عن شكرك.
وكما ذكرنا قبل ذلك أن النعمة هنا جنس، ولذلك لا تثنى ولا تجمع، فـ (نعمتك) معناها هنا كل النعم التي أنعم الله عز وجل عليك، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ} [إبراهيم:34] فأفردها؛ لأنها جنس، والمعنى نعم الله، وكذلك قوله: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]، فرحمة الله هذه جنس أيضاً، والمعنى رحمات الله العظيمة لعباده.
فيدعو العبد ربه: ((رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ)) يعني: ما أنعمت علي من نعم، وأعظم هذه النعم نعمة الإسلام الذي يشكر أهل الجنة ربهم سبحانه عليها، قال تعالى حاكياً عنهم أنهم يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:43].
ويقول هنا: ((رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ))، فأنعمت على والديّ أنهما أنجباني، وأنعمت عليهما بالحنان وبالرحمة وبالرزق، فربياني ونشآني على طاعتك، وأحسنا إلي وعلماني وهذباني وفعلا بي كل معروف.
قال: ((وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ)) أي: وأوزعني وحثني وادفعني وأعني على أن أعمل صالحاً ترضاه، فالإنسان مخلوق لعبادة الله، ولم يترك لك الخيار في أن تختار ما هو العمل الصالح الذي تريده أنت، فالعمل الصالح هو الذي يرضاه الله سبحانه، فتقول: ((وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ)).
فليس كل ما يختلقه الإنسان يكون شيئاً صالحاً، ولكن الصلاح يعرف بالمقياس الذي وضعه لنا ربنا وهو الكتاب والسنة، والعمل الصالح عمل يرضي الله سبحانه، وشرطه أن يكون مخلَصاً فيه، قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:14]، وقال: {أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:11]، فأمرنا الله عز وجل أن نخلص له في العبادة، وأن نتابع فيها النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهذان شرطان لقبول الأعمال.
فلم يقل: وأن أعمل صالحاً فقط، ولكن: ((وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ)) أي: تقبله، فأتقرب إليك بما تريده وبما تقبله.
وحتى تعمل العمل الصالح الذي يرضاه الله عز وجل لا بد من العلم، فكيف ستعرف أن هذا العمل يرضاه الله أو لا يرضاه الله عز وجل؟ فلا بد من العلم، فنعرف من الكتاب والسنة ما الذي يرضي الله عز وجل، فيعيش المؤمن بهذا العمل الصالح الذي يرضي به ربه سبحانه.