وقد ذكرنا أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في توبة الله سبحانه على عباده ومن هذه الأحاديث ما في صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الناس من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فأنزل الله سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68]، والآثام: هي عقوبة الإثم، {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:69 - 70].
إن الله غفور رحيم، وعفو كريم، فهو يبدل السيئات حسنات، ويبدل الآثام بالحسنات، وهذا من فضله سبحانه، ويؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول الله عز وجل لملائكته: أحضروا كبار وصغار سيئاته، فيأتي ببعض سيئات هذا العبد ويخفي عنه الباقي، والعبد يتذكر: عملت كذا وعملت كذا، فالله عز وجل يقول له: عملت كذا؟ فيقول: نعم، وهو يعلم أن هناك ما هو أشد من ذلك، فالله عز وجل يقول له: عملت كذا؟ فيعترف بذنبه أمام الله عز وجل، ويقول له: وعملت كذا؟ فيقول: نعم يا رب! كل ذلك وقد ستر الله عز وجل عنه من كبائر ذنوبه؛ لأنه قد تاب في الدنيا، فالآن الله عز وجل ستر عنه البعض وأراه البعض الآخر، فلما رأى ذلك من فضل الله سبحانه إذا بالله سبحانه يقول: قد عفونا عنك، وقد بدلناها لك حسنات، أي: فهذا الذي تراه أمامك الآن قد غفرناه لك، وبدلنا هذه السيئات حسنات، فإذا بالعبد يتطاول ويقول لله عز وجل: هناك ذنوب ليست هاهنا، يعني: هناك معاصٍ أنا عملتها وليست مكتوبة، وذلك لما رأى أن السيئات تنقلب إلى حسنات، والله عز وجل كريم يتفضل على عبده بالتوبة والمغفرة.
فهذا الحديث فيه: أن أناساً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا على الشرك، وقالوا: نحن في أيام الشرك عملنا كثيراً من السيئات، فقد قتلنا وسرقنا وزنينا وأكثرنا من ذلك، فهل إذا دخلنا في الإسلام سيفغر لنا ربنا أو ماذا سيفعل بنا؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]، وأنزل الله سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، فالله يغفر الذنوب جميعاً، فإذا تبتم إلى الله ودخلتم في الإسلام، فالله يغفر الذنوب جميعاً سبحانه.
ومن الأحاديث العظيمة ما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن رجل ممن كانوا قبلنا قتل تسعة وتسعين نفساً فأراد أن يتوب، فذهب يبحث عن أعلم أهل الأرض، فدل على عابد من العباد، فذهب إليه فقال له: إني قتلت تسعة وتسعين نفساً فهل لي من توبة؟ فقال: ليس لك توبة، فقتله وكمل به المائة، ثم سأل فدلوه على عالم فذهب إليه وسأله: قتلت تسعة وتسعين نفساً وكلمت مائة فهل لي من توبة؟ قال: ومن يمنعك من التوبة؟ ولكن أنت في أرض أهلها أشرار، اترك هذه الأرض واذهب إلى مكان كذا؛ فإن فيه أناساً يعبدون الله، فاذهب فاعبد الله معهم، فخرج هذا الرجل من هذه الأرض إلى الأرض الأخرى ومات في الطريق، فإذا بالملائكة يختصمون فيه، فملائكة العذاب يقولون: لم يعمل خيراً قط، وملائكة الرحمة يقولون: إنه خرج تائباً، فأوحى الله عز وجل إلى الاثنين أن قيسوا ما بينه وبين الأرضين، فإلى أيتهما كان أقرب فهو من أهلها، فقاسوا فإذا بالله يوحي إلى الأرض أن اقربي من هنا وابعدي من هنا، فوجدوه أقرب إلى أرض الرحمة فجعلوه من أهلها، فيقبض إلى رحمة الله سبحانه).
فهذا قتل وأكثر، وتاب إلى الله فأدركته الرحمة فكيف بما دون ذلك من الذنوب؟! فإذا تاب العبد تاب الله عز وجل عليه، حتى ولو كان قاتلاً ثم تاب فإن الله يرحمه، ولكن الغالب أن قاتل النفس لا يتوب.
فإذا أدركت العبد التوبة من الله عز وجل فالله يتوب عليه، أما إذا لم تدركه التوبة وافتخر بما فعل، وفعل هذا الشيء معانداً، وفرح بهذا الذي فعله من قتْل مؤمن بغير جرم وبغير حق، فهذا الذي جاء فيه الحديث الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما كان الله ليجعل لقاتل مؤمن توبة).
إن الإنسان الذي يعرف الإسلام ويعرف الحق، ويعرف أن هذا مؤمن ثم يذهب فيقتله بغير ذنب، أو يقتل إنساناً مؤمناً على شيء حقير من الدنيا لا يساوي أن يقتله من أجله، فنقول: رحمة الله تسع كل شيء، ولكن الله له الحكمة البالغة، فبحكمته سبحانه يلهم هذا التوبة فيتوب، ويحجب عن هذا التوبة فلا يتوب، فالله عليم حكيم والأمر راجع إليه سبحانه وتعالى؛ لذلك فالعبد يخاف من الله عز وجل، وما يدريه إن قتل إنساناً فلعل الله لا يلهمه أن يتوب، ولكن من وقع في المعصية فنقول له: تب إلى الله عز وجل، والله يتوب على من تاب، لكن عليك أن تفكر إذا عملت معصية من يضمن لك أن ترجع إلى الله وأن تتوب، أو تعيش حتى تتوب؟ فلعلك تقع في المعصية ويقبضك الله عز وجل عليها، فتموت على هذه المصيبة التي فعلت.
فلذلك الإنسان المؤمن إذا وقع في المعصية فليتب إلى الله، وإذا لم يقع في المعصية فليقل لنفسه: من لي بالتوبة إذا وقعت في هذه المعصية، ولعلي أموت عليها فأكون من أهل النار، ولذلك فابتعد عن المعاصي، وإذا وقعت فتب وبادر بالتوبة إلى الله، فإنه هو الغفور الرحيم.
فعلى المسلم أن يستشعر التوبة، وأن يستشعر بالجرم الذي وقع فيه، وأن يستشعر أنه وقع في شيء عظيم تجاه الله سبحانه، فإذا استشعر ذلك فتاب تاب الله عليه، وقد يعاود فيقع مرة ثانية ويستشعر بالذنب فيبادر بالتوبة، فالله عز وجل جعل ملكين: ملكاً على اليمين وملكاً على الشمال، ملكاً يكتب الحسنات، والآخر يكتب السيئات، وجعل ملك الحسنات هو الأمير على ملك السيئات، فإذا وقع العبد في معصية يقول: ارفع يدك؛ لعله يتوب، فيرفع يده ست ساعات عن العبد لعله يتوب إلى الله، فإذا مات فلا يلومنّ إلا نفسه؛ لأنه هو الذي وقع في ذلك، فقد فُتح له الباب للتوبة فلم يتب إلى الله، فاستحق العقوبة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه سبحانه، قال: الله عز وجل: (إذا أذنب العبد ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، قال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب ذنباً وتاب، فقال الله: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، ثم أذنب العبد ذنباً ثالثاً ثم رجع تائباً إلى الله، فقال الله عز وجل: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، وفي الرابعة يقول الله: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك).
فإذا وقع في الذنب علم أن الله سيعاقبه فيبادر سريعاً، وقد جاء في الحديث: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، ولا يمكن ألا يقع الإنسان في حياته كلها في الذنب، ولكنه إذا أذنب رجع فتاب إلى الله، ويندم على ذنبه، ويستغفر على معصيته، ويعزم ألا يرجع إلى الذنب مرة ثانية، وإذا كان في حق إنسان رد المظلمة إليه واستحله، ففي هذه الحالة يكون تائباً حقيقة، فالتائب ليس هو الذي قال: أستغفر الله وكفى، بل التائب هو الذي يتوب ويندم ويبكي على خطيئته التي وقع فيها، ويعزم على ألا يرجع إليها مرة ثانية فهذا يستحق أن يتوب الله عز وجل عليه، وكلما أذنب رجع، فكأن الله يقول له: إن كانت هذه عادتك: أنك إذا وقعت في الخطأ لم تتعمد هذا الخطأ، أو تعمدت فوقعت فيه وبادرت بالتوبة، فإذا فعلت ذلك ولو مراراً فسنغفر لك، فرحمة الله عظيمة واسعة، وكما جاء في الحديث: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل).
والعبد يكون مع ربه بين الخوف والرجاء، بين الخوف من الذنوب، والخوف ألا يتوب الله عليه، وبين رجاء رحمة الله، فهو يرجو رحمته ويخاف عقابه، فإذا كان هكذا فهو جدير بأن يتوب توبة صادقة، وأن يغفر الله له، وفرق بين هذا وبين من ينوي العود إلى الذنب، وإذا تاب فإنما يستغفر الله باللسان، وأما القلب فلم يتحرك، ولم يندم، ولم يعزم على ترك الذنب، فالقول باللسان لا ينفعه عدم موافقة القلب، وليس داخلاً في هذا الحديث، وإنما هذا الحديث في التائب الصادق إلى الله سبحانه.
قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)، يعلم ما تفعلون فيجازيكم على ما فعلتم.