قال تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى:26]، السياق في ذكر رحمة رب العالمين سبحانه، ولذلك أكثر المفسرين على أن الضمير في قوله: (يَسْتَجِيبُ) عائد إلى الله سبحانه، (ويستجيب) بمعنى: يجيب، وقالوا: أجاب واستجاب تأتي بمعنى واحد أحياناً، فهذا منها.
إذاً: فالله يقبل، والله يعفو، والله يعلم، والله يستجيب، والأصل المعروف أن تكون الجملة هكذا: ويستجيب للذين آمنوا، ولكن قال هنا: ((ويستجيب الذين آمنوا))، فهي أحياناً تتعدى للمفعول بنفسها، وإن كان الغالب أنها تتعدى للمفعول باللام، فيقال: يستجيب لـ (كذا)، وقد تكون: يستجيب كذا، فيستجيب بمعنى يجيب، وكأن السين لاستدعاء الفعل منه سبحانه، وكأنهم طلبوا فاستجاب سبحانه لهم، تقول: طلبت من الله فأجابني، ودعوت الله فاستجاب لي.
فقوله: ((يستجيب الذين آمنوا)) معناها: يجيب الذين آمنوا، فضُمِّن معنى الإعطاء.
قالوا: ومن معانيها أيضاً: ليشفع بعضهم في بعض، فكأنهم يطلبون منه فيفعل، فيدخل بعضهم الجنة، ثم يطلع على النار فيجد فيها صديقه الذين كان معه في الدنيا وكان على الإسلام، ولكن عصى الله سبحانه، فيقول: يا رب! شفعني فيه، إنه كان صديقي في الدنيا، فيستجيب الله عز وجل فيشفع هذا في هذا، ويخرج هذا من النار بشفاعة هذا فيه، فتأتي بمعنى: أنه يستدعي للذين آمنوا الإجابة، أي: يجيبهم فيما سألوه وطلبوه.
وكذلك قد يأتي المعنى في قوله: (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) على بابها وعلى أصلها، أي: فيستجيب المؤمنون لله، ويدخلون في دين الله طواعية، ويتابعون النبي صلوات الله وسلامه عليه، ويعملون بما أمر الله عز وجل به، ويتركون ما نهى الله عز وجل عنه، فيزيدهم الله عز وجل من فضله، وإن كان المعنى الأول أجمل في أن الضمير في كل الأفعال السابقة عائد على الله سبحانه، فهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وهو يعلم ما تفعلون، وهو الذي يستجيب سبحانه، ويزيدهم من فضله سبحانه.
(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) إذاً فالذي يستحق الإجابة من الله وأن يعطيه سبحانه هو المؤمن الذي يعمل الصالحات؛ ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الكافر سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو غير ذلك إذا أسلم فحسن عمله، فالله عز وجل يكفر عنه ما مضى، فالإنسان في كفره يقع في معاصٍ كثيرة، والكفر أعظم الذنب، فإذا أسلم وأحسن فالإسلام يهدم كل ما كان قبله.
فإذا أسلم ولم يحسن، إذا أسلم وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لكن ما زال يسرق، أو يزني، أو يقع في المعاصي فإنه يؤاخذ بهذه الذنوب، أي: بما يفعله الآن في الإسلام، وتنفعه لا إله إلا لله في أنه لا يخلد في النار، فإذا قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله فإنها تنفعه يوماً من الدهر وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه، إذاً فكلمة لا إله إلا الله تنفع كل مسلم حتى وإن دخل النار، وفي النهاية فالله سبحانه يخرجه من النار برحمته وشفاعة الشافعين ويدخله جنته سبحانه، وهؤلاء هم عتقاء الله من النار، لكنه قد يكون في النار إلى ما شاء الله، وهذا خلود دون خلود الكفار، فالكفار يخلدون في النار فإذا رأوا البهائم قد صارت تراباً قال أحدهم: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]، ولا يكونون تراباً، بل لا يزالون في النار أبد الآبدين، نسأل الله العفو والعافية.
فيستجيب الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات، ((ويزيدهم من فضله)) أي: يعطيهم الحسنى ويزيدهم من فضله سبحانه.
فالعبد يسأل ربه والله يستجيب له ويعطيه عطاء عظيماً، وعطاء يليق به، والعبد مهما تخيل الجنة فلن يصل إلى حقيقتها، وسيتخيل من البيئة التي هو فيها، ومن الأرض التي خلق عليها، فالإنسان عندما يرى بستاناً عظيماً جميلاً فيه من الثمار ما شاء الله فإنه يقول: هذا مثل الجنة، وهذا في تخيله هو وإلا فالجنة أعظم من ذلك بكثير، فليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، لكن الحقيقة أعظم بكثير، وانظر إلى أهل الجنة وهم يعطون من ثمار الجنة فيقولون: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25]، فتشتبه مع الثمر السابق في المنظر فقط، وأما الطعم فشيء آخر خالص، فيقول الله سبحانه: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25] فالتشابه في المنظر، وأما الطعم فيختلف.
فيعطيهم ما طلبوه ويزيدهم، والحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله سبحانه.
(وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ)، وأعظم فضله سبحانه على عباده: النظر إلى وجهه، وأعظم فضله سبحانه رضوانه، ولذلك جاء في الحديث أن الله يقول لأهل الجنة: (يا أهل الجنة! هل لكم من شيء تريدونه؟ فيقولون: يا رب! وماذا نطلب وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحداً من العالمين؟! فيقول: اليوم أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً).
وأما الكافرون فيقول الله سبحانه عنهم: (وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ)، وانظر إلى منظرهم في النار، قال تعالى: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:104]، تقول: فلان كلح وجهه، إذا اشتد قبح وجهه ولو أن إنساناً لفحته النار في وجهه -والعياذ بالله- فإن منظر وجهه سوف يتغير، ويحتاج إلى عدة عمليات تجميل حتى يرجع شيء مما كان عليه قبل ذلك، فالكفار إذا دخلوا النار كلحت وجوههم، فصاروا سود الوجوه، زرق العيون، عمياً في النار، فتحرقهم النار، فإذا بالشفة السفلى تنزل إلى صدر أحدهم، والشفة العليا تشمر إلى أعلى، فتخيل منظر إنسان بهذه البشاعة!! وأهل النار يوبخهم ربنا سبحانه بقوله: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:105]، {فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الجاثية:31]، ألم تكن الآيات تتلى عليكم، فلماذا لم تتبعوا القرآن ولم تتبعوا الآيات؟ {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:109 - 110]، فقد كان الكفار المجرمون أهل النار يضحكون من المؤمنين ويسخرون منهم، وكم من إنسان أراد أن يصلي فيمنعه هؤلاء المجرمون بسخريتهم، وهؤلاء قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:29 - 33]، وفي يوم القيامة: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:34 - 36].